أول الكلام


نقرأ معاً.. نفكر معاً..الحياة مشاركة




الأربعاء، 5 سبتمبر 2018

إصدارات أخرى





أدب الطفل









أطفال السماء ورحلة البحث عن حذاء للمخرج الايراني مجيد مجيدي




نُشر في جريدة الزمن

    
مقدمة
ما يميز الأفلام الايرانية هو بساطتها وأصالة أفكارها. فهي سينما لا تعتمد مطلقا على عناصر الابهار البصري الذي يجعلك تقف مندهشاً أمام التقنيات المادية الفائقة كتلك التي توظفها السينما الهوليودية الرائجة ، والتي تشعرك رغم ذلك بسطحية معالجتها وهشاشة أفكارها . الإبهار في الأفلام الايرانية يعتمد على توظيف عنصر البساطة وتحويله الى بحث عميق في المفاهيم الأساسية حولك ، إلا أن كمية التكثيف في هذه البساطة المتقنة ليست بتلك البساطة إطلاقا. في هذا الفيلم بالذات يتركك المخرج تتمنى لو كانت لديك القدرة على التدخل في أحداث الفيلم ومساعدة بطله الصغير، خاصةً مع عفوية المكان وتلقائية الحوار وصدق الأداء الذي يصل الى الُمشاهد دون أن يتعمد مخرجه أن يصلك بتلك الطريقة المباشرة الكاشفة لفكرة الفيلم.

ورغم أن الترجمة الحرفية لاسم الفيلم باللغة الفارسية (بجه هاي آسمان) يعني حرفيا أطفال السماء، الا أن الترجمة الرسمية له باللغة الانجليزية الى Children of Heaven قد أدت الى وجود اختلاف طفيف في الترجمة العربية ما بين المعنى الرمزي ( أطفال السماء) وما بين المعنى المتعارف ( أطفال الجنة) إلا أنه لا يمكننا إلا أن نتفق أن الطفلين علي وزهراء بطلي الفيلم بأدائهما العذب يصوران أطفال الجنة.

علي وزهراء
 تحملك القصة الى حياة طفلين أخٌ كبير وأختٌ أصغر من عائلة فقيرة تسكن في غرفة مؤجرة الى جوار عائلات أخرى تسكن ايضا في غرف مفردة. أول سؤال تبادر الى ذهني هو : كم حذاءً يملكه طفلي ؟ هذا ما سيشغلك قليلا والطفل علي يأخذ حذاء اخته الى الإسكافي ليرقعه ، ثم  تتساءل لوهلة لماذا هذا التعلق بالحذاء الذي يفقده علي سريعا حين يلتقطه جامع القمامة بطريق الخطأ ؟ نعم إنها مشكلة حقيقية فزهراء اخت علي الصغيرة لن تتمكن من الذهاب للمدرسة يوم غد من غير حذائها الوحيد الذي لا تملك سواه !

فقط النظر إلى عيني هذا الطفل البارع المغروقتين بالدموع يجعلك تشعر بالحزن والخوف الذي يشعر به، فلا يمكنه أن يخبر والدته المريضة التي تسهر مع الأخ الرضيع ولا تنام الا قليلا بسبب أعمال المنزل في النهار، ولا يمكنه أن يخبر أباه المعدم الذي يشتري حاجة البيت بالدّين، فشراء حذاء آخر في هذه الحالة هو كشراء قطعة  ثمينة من الذهب . ولكن ألا يمكن لتفكير الاطفال البريء أن يُوجد أكثر الحلول براءةً واحساساً مرهفا؟ يقرر علي أن يعير أخته حذائه حين تذهب لمدرستها في الصباح، على أن تعود بسرعة ليرتدي الحذاء ويغادر الى مدرسته التي تبدأ مع انتهاء وقت مدرستها. ولكن علي طالب مجدّ ويحوز دوما درجات مرتفعة وتأخره بسبب الحذاء يعرضه لغضب المدير، وهنا لا يمكن لعلي أن يبوح بسر تأخره . ورغم الفقر الذي تعانيه العائلة المكافحة ، إلا أن الأب ينبه زهراء بعدم استخدام السكر الخاص بالمسجد المجاور عندما تصنع له الشاي، فمهمة الوالد هي فصل قطع السكر واعادته لاستخدامه لضيوف المسجد وبذلك فلابد من المحافظة على الأمانة كما يقول الوالد. ورغم التعب الذي تعانيه والدة الطفلين الا أنها لا تنسى أن ترسل بعض الحساء الذي صنعته الى السيدة العجوز جارتها في الغرفة المجاورة.

البحث عن الحذاء
تبدأ رحلة بحث الطفلين عن الحذاء الضائع حين تكتشف زهراء أن طفلة أخرى في المدرسة ترتدي حذائها، توشك زهراء على تأنيب الطفلة الأخرى ، لكن حين تعيد اليها الطفلة قلمها الثمين الذي فقدته في اليوم السابق تشعر زهراء بالسعادة لأن القلم كان هدية من علي ، الذي بدوره حصل عليه كهدية من مُدرسه لتفوقه الدراسي ، وهنا تصبح الطفلتان صديقتان. هل يمكن أن تمر كل هذه المواقف دون شجار بين علي وزهراء أو بين زهراء والطفلة الأخرى؟ هنا تكمن أحد جماليات الفيلم ، النظرات كلها بين الأطفال تخبرك عن الحزن والتأنيب واللوم ولكن بدون شجار مطلقا بين الأطفال !

يكتشف الطفلان لاحقا أن والدة الطفلة الأخرى قد قايضت الحذاء بشيء آخر من جامع الخردوات ، وأن الفتاة الصغيرة تخرج مع أباها البائع الفقير المتجول لمساعدته في عمله. يبدو أن شراء حذاء آخر لأي طفل هنا بحاجة الى عمل جاد ومستمر من قبل الوالدين !
 من المشاهد المؤثرة في فيلم ( أطفال السماء) حين تسقط أحد فردتي حذاء علي الذي ترتديه زهراء في مجرى ماء وتحاول زهراء اصطياد الحذاء وهي على وشك البكاء من خسارة فقده ، وحينها يساعدها أحد المارة و ينجح بالتقاط الحذاء من مجرى الماء. ويذهب علي مرتديا الحذاء المبلل الي المدرسة ليؤنبه المدير على ارتداء الحذاء من غير جوارب ! ولا يمكنك إلا أن تتعاطف مع تلك النظرة المنكسرة في عيني علي أمام تأنيب المدير.

المركز الثالث
وتتواصل يوميات علي وزهراء دون علم الوالدين المنهكين بما يحدث في رحلة المبادلة اليومية للحذاء الوحيد، وحين يشاهد علي اعلانا في المدرسة عن مسابقة للجري بين طلاب المدارس، يحصل فيها الفائز الثالث على حذاء رياضي جديد يصمم على المشاركة بحذائه المهترئ. ولكن ماذا لو لم يحصل على المركز الثالث ؟ ماذا لو كان الولد المجدّ المرهف الحس والبالغ البراءة والصدق يملك أكثر مما يتوقع ؟ فرغم محاولاته في التأخر في السباق حتى يتجاوزه الآخرون، إلا أنه ينجح في إحراز المركز الأول ! وحين يلتقط المصور صورة تذكارية لعلي مع مدرب الرياضة في المدرسة يبدو علي في قمة حزنه مع احساسه بخذلانه لأخته الصغيرة التي وعدها بإحراز المركز الثالث ، يبدو علي وكأنه خسر السباق بأكمله. يعود الفائز الأول محبطا الى المنزل بفوزه الذي أحرزه ، يتصافى الأخوين عند بركة الماء الصغيرة في وسط المنزل ، ابتسامة زهرة الصغيرة حين ترى - ما أصبح في الآونة الأخيرة حذائهما- وقد تمزق بالكامل .. يبدو أنهما ينسيان لوهلة رحلة بحثهما عن حذاء حين يضع علي رجليه المتعبتان في الماء ، في الوقت الذي يكون والدهما في السوق قد اشترى حذاءً جديدا لكليهما.

المخرج مجيد مجيدي
ولد المخرج الايراني مجيد مجيدي في طهران عام ١٩٥٩ وهو من المخرجين الايرانيين المتميزين حيث رشح فيلم ( أطفال السماء) لجائزة الاوسكار كأفضل فيلم بلغة أجنبية في عام ١٩٩٨ ولكنه خسره لصالح الفيلم الايطالي ( الحياة حلوة) للمخرج روبرتو بينيني. من الأفلام الجميلة لمجيد مجيدي فيلم (باران) ١٩٩٢، وفيلم (صبغة الله) ٢٠٠٠، ويعمل المخرج حاليا على ثلاثية تحكي قصة حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو المشروع الذي بدأ مجيدي العمل عليه منذ سبع سنوات ، وتم تصويره في عدة دول عربية واسلامية.