أول الكلام


نقرأ معاً.. نفكر معاً..الحياة مشاركة




السبت، 21 فبراير 2009

البداية والنهاية

كم سنعيش ؟
ومتى يكون الإنطفاء..؟
وكيف يكون الكفن؟
وكيف الحياة بروحٍ تعبر دون جسد..؟
وماذا عن رحلة "الرحيل"
عن الحياة بعيداً عن الحياة
وعن ولادة "عسيرة"
عن فناءٍ يقود إلى المُبتغى
لا أعلم..!
هل سأبقى هواءً دون وعاء..
هل سأبقى غباراً دون وجود..؟
ترى..
كم سيطول العذاب.. إلى أين سيمتد الحساب
وهل أعذار يومي ستكفي..
لتكفر عن ذنوبٍ تستعر بعمري؟
وماذا عن هجعة هذا الأديم
وبعداً سحيقا عن لفحات النسيم
هل سأغدو طعاما مريئا
يقتص مني ريناً عتيق
ويحتز مني درناً عميق
أم سأمضي دون عناء.. دون سؤال الخلود
هيهات هيهات..
فإن الرحيل إلى كنه الرحيل..
يوجب أن نعود جنينا في رحم التراب
يعاني كما لم يعاني في نشأة الحياة
ليرفل في نشأة أخرى..
غداة يوم الغياب!
2009


الخميس، 19 فبراير 2009

قصة منظمة تنشر التعايش السلمي بين أطفال العالم

نُشرت في جريدة الوطن 2008
"من الأطفال وإلى الأطفال"
قصة نجاح سيدة عراقية في نشر مفاهيم التعايش السلمي في المجتمع الاسترالي
إذا بحثت في أرجاء العالم
ستجد أن الأطفال متشابهين
ألواننا وأشكالنا وأحجامنا مختلفة
لكنّ حاجاتنا واحدة
نحتاج إلى السعادة
والسلام
والحرية
وإلى من يحبنا ..!
هكذا كانت تردد كلمات الأغنية الشجية التي استمعت إليها مع صديقة استرالية، مجموعة من الأطفال يغنون باللغة الانجليزية وباللغة العربية أغاني عن السلام والرغبة في العيش بأمان. لم يكن من المدهش أن يطالب الأطفال بأبسط حاجاتهم في زمن الحرب والدمار، لكن المدهش أن من كان يعبر عن هذه الحاجات هم مجموعة من أطفال المدارس في كوينزلاند الاسترالية الذين اجتمعوا لتوجيه رسالة حب وسلام إلى أطفال العراق. أدركت أن هناك قصة (عراقية) تقف وراء هذا المشروع الطموح، وقررت أن أبحث عن تلك السيدة الاسترالية التي تغني من بعيد للعراق وأطفال العراق.
في يوم صباحي ماطر في مدينة بريزبن الواقعة في جنوب شرق كوينزلاند الاسترالية، ومع كوب من القهوة الساخنة في إحدى مقاهي المدينة كان لقائي مع سناء عبد الرحيم ممّو. في جعبتي الكثير من الأسئلة حول هذه السيدة الاسترالية الآتية من عمق العراق.لكنّ سناء انطلقت بذاكرتها ومعها تلاحقت صور الحرب والدمار، وأخذت أبحر مع سناء في قصتها الطويلة التي بدأت عام 1979م. ورغم مرارة الذكريات التي كانت تلوح في عينيها، إلا انها أنطلقت بنا إلى حيث بدأت رحلتها.
غادرت سناء مدينتها البصرة في عام 1979 إلى المملكة المتحدة في سبيل إكمال دراستها الجامعية، ولم تتخيل في حينها انها ستغادرالعراق نهائيا. بقت سناء في انكلترا حيث جائت عائلتها لزيارتها لاحقا ومن ثم العودة إلى العراق. لكن العودة تأخرت لعشر سنوات كاملة هي عمر الحرب العراقية الإيرانية. وما أن أنتهت هذه الحرب المدمرة، حتى كان العراق يعيش في ظلمة جديدة باحتلال صدام حسين للكويت عام 1990، ومعها ضاعت كل آمال العودة إلى العراق. أكملت سناء في هذه الفترة دراستها الجامعية حيث حصلت على شهادتي البكالوريوس والماجستير في مجال الهندسة المدنية، من ثم هاجرت إلى استراليا عام 1987م.
وعن هذه الفترة تقول سناء " كان من الصعب القول أني عراقية، خاصة بعد احتلال صدام حسين للكويت، وربما كان هذا مصير العديد من العراقيين غيري، حيث كنا نفضل البقاء ساكتين ومنطوين في مجتمعنا على التمازج مع الآخرين والقول بأننا عراقيين". تضيف سناء: "كان لوجودي في المجتمع الاسترالي ميزة كبيرة، وهو جو الانفتاح والقدرة على التعبير الذي كان مختلفاً عن مجتمع كبت الحريات كما عايشناه في العراق". ولذلك شعرت سناء بأن عليها أن تفعل شيئا يفيد المجتمع العراقي في بريزبن ويغير من وضعهم الساكت والمنعزل. وقد كانت البداية مع أمواج اللاجئين العراقيين التي بدأت تتدفق على بريزبن، حيث أخذت سناء تعمل معهم كمتطوعة إلى جانب عملها الدائم كمهندسة مدنية.
تعترف سناء بان الوضع كان صعبا للغاية على هؤلاء اللاجئين الذين تركوا العراق قهراً، وكان من المؤلم الاستماع إلى حكاياتهم وأنينهم وذكرياتهم عن كل من خلفوه وما تركوه ورائهم في العراق. تقول سناء " بقت في ذاكرتي الكثير من هذه القصص المؤلمة، وثم جاءت حرب الولايات المتحدة على العراق لتكون الضربة الأكثر إيلاما ووجعا بالنسبة لي، حيث كانت أستراليا من الدول التي شاركت في الحرب على العراق".
لكن قصة سناء لم تتوقف هنا، بل بدأت مع ابنتها التي كانت تبلغ من العمر تسع سنوات عندما قُرعت طبول الحرب على العراق. تقول سناء " شاهدت ابنتي على التلفاز أخبار الحرب على العراق ورفضت في البداية الذهاب إلى المدرسة". وحين اضطرت ناتالي، ابنة سناء على الذهاب للمدرسة تفاجأت بأن الأطفال لا يريدون اللعب معها، لأن أستراليا في حالة حرب مع العراق، ولكون والدتها عراقية. تقول سناء عن هذا الموقف " كان ذلك صعبا بالنسبة لي ولم أدعه يمر بدون ان أفعل شيئا، ذهبت إلى المدرسة وتحدثت معهم حول الأمر".
لكنّ سناء بقت قلقة بعد هذا الموقف، فقد استطاعت التعبير عن وجهة نظرها ومحادثة المدرسة والمدرسين بشأن موقف الأطفال من ابنتها، ولكن ماذا عن آلاف اللاجئين العراقيين، الذين ربما يواجه أطفالهم نفس الموقف، ولا يتمكنون من تبليغ رسالتهم؟ وقد كان هذا كافياً لتترك سناء عملها كمهندسة مدنية ولتتفرغ لتأسيس مشروع مبتكر موجه من الأطفال إلى الأطفال. في عام2003 أسست سناء منظمة ( من الأطفال إلى الأطفال)Kidz 2 Kidz وهي منظمة صغيرة غير ربحية، تعتمد على تبرعات الأفراد ومساهمة المتطوعين، وتهدف إلى إشاعة التسامح والسلام بين أطياف المجتمع الاسترالي. ولاحقاً تأسست الفرقة الموسيقية التابعة للمنظمة عام 2004، وتضم مجموعة من أطفال المدارس الاستراليين الذي يغنون في كلمات بسيطة ومؤثرة عن التعايش السلمي.
تقول سناء " تبلورت لدي فكرة مشروع موسيقي، يشترك في كتابته أطفال المدرسة ومدّرسيهم، ليكون بمثابة رسالة حب وسلام يوجهها الأطفال الاستراليين إلى الأطفال العراقيين" وكان الهدف من ذلك توضيح أن كل أطفال العالم باختلاف جنسياتهم ودياناتهم وأصولهم العرقية، فإن لهم حاجات متشابهة وهم يشتركون في معالم طفولتهم وبراءتهم. وتدرك سناء أن هذا المشروع لن يوقف أو يغير من أوضاع الحرب في العراق، لكنه سيساهم في توعية الأطفال في الغرب بما يواجهه غيرهم من أطفال العالم من مآسي.
المدهش أن هذا المشروع الموسيقي المكّون من خمس أغنيات جميلة ومؤثرة، هي بأصوات الأطفال الاستراليين، وقد قاموا بأداء أغنية واحدة بكلمات عربية تغلب عليها اللهجة الانكليزية. وحين سألت سناء لماذا لم يتم الاستعانة بالأطفال الذين يتحدثون اللغة العربية فقط . أجابت " كان ذلك تحدياً أردنا خوضه، أردنا أن يتمكن هؤلاء الأطفال القادمين من ثقافات ولغات مختلفة تقديم رسالة حب موحدة لأطفال العراق وباللغة العربية". ويبدو أن الأطفال الاستراليين نجحوا في ذلك. أيضاً هدف هذا المشروع الموسيقي إلى مساعدة الأطفال في التعرف على الثقافة العربية، والترويج لمفهوم التعايش السلمي بين أطفال العالم. وحاليا تعمل سناء على الاعداد لشريط موسيقي آخر يأخذ بعدا عالميا ، وتطمح إلى مشاركة المدارس من الدول العربية في هذا المشروع.
انطلقت سناء ممّو في عام 2005 إلى المملكة المتحدة، وبصحبتها مجموعة من الأطفال الاستراليين لترويج شريطها الموسيقي الأول، والتقت بالطفل العراقي المشهور علي عباس والذي فقد كل أفراد عائلته، وفقد معها يديه، في قذيفة دمرت منزلهم بالعراق. لكن هذا الطفل كان يبدو شديد التأثر بالشريط الموسيقي وبرسائل الحب الموجهه إلى أطفال العراق. وقام بدعوة سناء لزيارة مدرسته، حيث أهداها لوحة جميلة رسمها بقدميه تمثل المسجد والصليب كرمز لاتحاد المسلمين والمسيحيين العراقيين. وحين عادت سناء إلى كوينزلاند باستراليا وجدت أن المسئولين في جهات التعليم قد قرروا إدراج الشريط الموسيقي ضمن برنامج (التعدد الثقافي والعرقي) الذي يتم الترويج له ودراسته في المدارس الاسترالية.
تؤمن سناء ممّو بقدرة الشباب على التغيير وعلى زرع الأمل في نفوس اليائسين، ومن القصص المؤثرة التي ترويها هي قصة السيدة العراقية المصابة بالسرطان، والتي التقت بها في المملكة المتحدة. تقول سناء أن هذه السيدة قررت الاستسلام لقدرها، ووقف علاجها من السرطان حينما فقدت أحد أفراد عائلتها المقربين في العراق. ولكنها بعد ان استمعت إلى الكلمات التي يرددها الأطفال في الشريط الموسيقي تأثرت بشدة، وقررت معاودة علاجها، بعد أن عاودها الأمل في الحياة.
تقول سناء " حين عدت من رحلتي من المملكة المتحدة، فكرت حينها إن هذه هي نهاية المشروع وأني فعلت كل ما يمكن أن أفعله". لكنها سرعان ما بدأت تتتلقى عدداً من رسائل الشكر الموجهة من مجموعة من القادة المسيحين والمسلمين، ونجحت في أن تكون متحدثة دائمة في عدد من المناسبات والاحتفالات المحلية. وحاولت سناء عن طريق محاضراتها المختلفة توضيح أن العراق ليس بربرياً كما كانت تروج له بعض الجهات، وكونها مسيحية، تعيش حاليا في مجتمع استرالي أغلبيته من المسيحيين ، فقد حاولت أن توضح أيضا كيف ان المسيحين والمسلمين عاشوا في سلام ووئام طوال عقود طويلة في العراق. ومن الملفت للنظرأن المجتمع الاسترالي يتميز بقوة وفاعلية الجماعات المحلية ودعمه للمنظمات والمؤسسات التي تعود بالفائدة على المجتمع ككل. ومعظم الدعم الذي تتلقاه سناء آتٍ من جماعات التعدد العرقي والثقافي، والتي تهدف إلى إشاعة السلام والتفاهم والحوار البنّاء بين مختلف الأصول العرقية التي ينتمي إليها أفراد المجتمع الاسترالي. لم يمضي وقت طويل حتى كانت انجازات سناء تتوج بالشكر من قبل المسئولين والمهتمين، فقد حصلت سناء على ميدالية الشرف الاسترالية عام 2006، وجائزة كوينزلاند الخاصة في مجال السلام عام 2006. وفي عام 2007، تلقت سناء وفرقة الأطفال الموسيقية دعوة من الملكة نورالحسين لتمثيل استراليا في المؤتمر الدولي للشباب بالاردن.
تطمح سناء عبد الرحيم ممّو إلى أن تنشرمفاهيم الحب والسلام بين أطفال العالم، وإلى أن يتفهم الأطفال معاناة غيرهم من الأطفال. تركتُ سناء وأنا أردد كلمات هؤلاء الأطفال الذين كانوا يغنون باللهجة العراقية المحببة أشجى الأغنيات:
يا حمام يا حمام
بلغ أحبابي من عندي السلام
قلبنا وياكم أطفال العراق
الوطن يبقى وشعبك أصل
مايه وترابه وشجره ونخيله
أهل الحضارة وأهل الأنبياء
الشعب واحد أكبر من النظام!
موقع المنظمة كالتالي:
Kidz 2 kidz organization
www.kidz2kidz.org.au

الأحد، 8 فبراير 2009

أدب النوحيات

قمت بكتابة هذا الموضوع قبل فترة طويلة حين كنت طالبة جامعية. وقمت باعداد هذه الفقرة لتكون ضمن برنامج إذاعي تدريبي في إحدى المقررات الدراسية. أعلم أن الموضوع بحاجة إلى المزيد من المعلومات المعمقة والموسعة. لكني آثرت نشره حاليا، على أمل أن أتمكن في المستقبل من الكتابة فيه بشكل أفضل.

أدب النوحيات أو اللطميات أدبٌ رفيع، عُرف به بعض أوساط المسلمين، الذين يحرصون على إقامة المناسبات الرثائية والتأبينية وإحياء ذكرى النبي(ص) وأهل بيته عليهم السلام. وأدب النوحيات أو اللطميات عبارة عن قصائد شعرية شجية، مشحونة بالعاطفة القوية، إلى جانب رقة وبلاغة وجمال كلماتها ومعانيها ومضامينها. والنوحيات جمع مفردها نوحية، وقد تكون مشتقة من النوح أو النواح وهي الحالة أو التعبير الذي يصاحب الفرد عند وفاة شخص عزيز أو غالي عليه، أما اللطميات فمشتقة من اللطم، وقد يكون سبب هذا المسمى، الإيقاع الذي يواكب قراءة القصيدة الشعرية فتنجذب له الأسماع وتتآلف معه النفوس. ومن هنا يمكننا أن نفهم طابع الحزن والألم الذي يغلف هذا اللون الأدبي، فالقصيدة الشعرية تكون طويلةً عادةً، وتُلقى بلحنٍ جميل، ولذا يشترط في مُلقيها جمال الصوت وقدرته على التأثير، أو قوته وشدته. ويجب أن يكون لحن النوحية متسقاً وإيقاع اللطم الخفيف أو القوي المُصاحب له. فهذا اللطم الخفيف عبارة عن ضربات متتالية ذات ترتيب عددي منتظم يختلف حسب لحن النوحية، والإذن المعتادة على سماع النوحيات وتكرارها تعرفه وتدركه بشكل تلقائي فإما أن تكون ضربات فردية بينها مسافات زمنية قصيرة أو ضربات متلاحقة أو ثلاث ضربات متتالية ثم مسافة زمنية فاصلة تعود بعدها إلى العدد الثلاثي وهكذا. والعادة أن اللطم بالنسبة للنساء يكون على الفخذ وبالنسبة للرجال على الصدر. كما أن لكل نوحية مقطع رئيسي يردده المستمعون بصوتٍ جماعي بعد كل مجموعة معينة من الأبيات الشعرية وحتى إنتهاء النوحية.

أما اللغة التي تُلقى بها فهي اللغة العربية الفُصحى ذات البلاغة والبيان وجمال المعاني والمرادفات بلغة شعرية جميلة، أو تقرأ باللهجة العامية العراقية ذات النغم المميز في النطق، والقوة في الأداء. وقد يعود استخدام اللهجة العراقية، لوجود مراقد الأئمة الأطهار عليهم السلام أي أحفاد النبي(ص) في البقاع المقدسة بالعراق، مما ساعد على وجود عدد كبير من الشعراء والخطباء العراقيين الذين سادت لهجتهم العراقية على غيرها من اللهجات.

وتتنوع مواضيع ومضامين النوحيات في عصرنا الراهن، إلا أن الموضوع الرئيسي يبقى الحديث عن المصائب والويلات والمحن التي مر بها أهل البيت عليهم السلام بعد وفاة النبي (ص) وحتى استشهاد الحسين عليه السلام، بعد أن أعلن ثورته على يزيد بن معاوية ورفضه مبايعته بالخلافة. وتمتزج الكلمات والمعاني العاطفية الحزينة بل الموغلة في الألم والمعاناة من خلال استعراض ما مر به الحسين عليه السلام وأهل بيته من قتلٍ وتمثيل بالجثث ووطء حوافر الخيل لها، إلى حرق خيام النساء بعد وفاة الحسين وتعذيبهن ومن ثم اقتيادهن سبايا. تمتزج هذه المضامين بالمبادىء والعبر والشعارات والُمثل التي آمن بها أهل البيت ودافع عنها الحسين(ع) دفاع المستميت والمضحي بكل ما يملك.

والحقيقة أنه في بعض الحالات نجد ان هذه النوحيات قد أصبحت تُسقط أحداث ما جرى في التاريخ الإسلامي على واقعنا المعاصر بكل إشكالياته. ويبقى هذا الأدب الرثائي الرفيع مليئاً بالرموز والمعاني والايحاءات، أدباً مجهولاً لم ينل حظه من التحليل والبحث والدراسة والنقد، رغم ما يكشفه عن فكر وثقافة ممارسيه.

الأربعاء، 4 فبراير 2009

إيقاع ذاتي في إبداع إبراهيم الكوني

اللغة والأسطورة والفلسفة هي الأدوات التي يمتلك ناصيتها إبراهيم الكوني ويجيد بتلك الشفافية العالية خلق مزيج لا يتكرر في تكوينات هذه الأدوات. تشع لغة الكاتب بالسحر والغموض ، وتكتنف بالإيقاعات والإيحاءات ما يجعلها تتجاوز ذاتها وتفجر أقصى الإمكانيات التي تمتلكها ، وكأن اللغة كانت في غياب كامل وإذا بإبراهيم الكوني يطلق لها العنان ويمنحها من الآفاق ما يجعل الأحداث ـ التي قد تبدو بعضها عادية ـ أمورا خارقة فوق الفهم ومن صلب الحكمة ورحم الحياة الزاخرة بالأعاجيب. ومن قواميس أبو حيان التوحيدي ، و كلمات المتصوفين وأنات المكلومين وبقايا السحر وكلام التمائم ونصائح الأولين ، ينتقي الكوني كلماته التي تتحول من لغة الأقدمين المهجورة إلى لغة راقية ، ممكنة المنال ، فيها من التشويق ما يجذب إلى متابعة تقنياتها.

والمرأة لدى الكوني أصل المشاكل وأصل المصائب وهي ليست أبداً أهم شيء لدى الرجل الصحراوي ، بل هي تأتي في مرحلة متأخرة عن ذلك ، كما نرى في قصة " التبر" حين يضحي الرجل بزوجته لرجلٍ آخر من أجل جمله ( الأبلق ) ، والزعامة قد تكون الأهم كما في " الفزاعة " ، وقد تأتي بعد أمور كثيرة ، وإن كانت بعض شخصيات الكوني نساء صارعتهن الحياة وأصبحن ضحايا. أما الأسطورة فهي الأساس الذي يقيم عليه الكوني صوره وشخوصه وأحداثه ، ومن الأسطورة بل من مخزون الأساطير يغرف الكوني دون توقف . ومن هذا التراث الأسطوري نعلم أن الاستقرار في أرض واحدة جريمة لساكنيها وقيداً يثقل كاهل الصحراوي ويعرضه للعقاب ، إلا أن أقسى القيود هي أغلال العادات والطقوس والتقاليد وقصص الحكماء والعرافين الذين يأثرون بشكل أو بآخر على مجرى الحياة.

ومع الظروف القاسية التي تخلقها الصحراء ، تصبح للخرافات والأساطير لغة خاصة تنمو مع أهلها ، وهم هنا (الطوارق) الذين شاءت الأقدار أن تكون كل الصحاري سكناهم وهم هنا يجمعون بين أقوام شتى وتأثيرات عدة ، ويرتبطون عن طريق القوافل وساكني الصحاري ومن على شاكلتهم بليبيا ومالي والنيجر ، فيختلط التراث القادم من شمال أفريقيا مع ذلك الآتي من جنوبه ، ليمزج بين معتقدات المجوس والوثنيين وأهل التصوف والوجد ، وغير ذلك من الديانات والأفكار الدينية والمعيشية والتي يقوم جزء لا بأس به منها على نوع من الطقوس التي لا سبيل إلى إنكارها في تلك البيئة الصحراوية، التي تفتقر إلى الأسلوب العلمي المتبع بالدراسات و البحوث مما يساعد على إجلاء تلك المعتقدات . ومن تتبع هذه المعتقدات يظهر لنا مدى إلمام الكوني بتراث الصحراوي ، وتراث القبائل الساكنة فيه والميثولوجيا التابعة لها ، ولا مجال لدى الكوني لنفيها أو رمي سهام الشك فيها .. فهي أي الأسطورة حقيقة ومن يخالف كلام الأقدمين شأنه القصاص ، كأغلب شخصيات الكوني التي ينالها العقاب الذي لا يكون سوى الموت لمخالفة كل تلك الأقوال والنصائح الخالدة ، كما إنها تنال كل من لم يلم بها ولم يعرفها ، فالكوني يتخذ من الأسطورة واقعة من وقائع الحياة تثبت صدقها بأي شكل وفي أي موقع كان.