أول الكلام


نقرأ معاً.. نفكر معاً..الحياة مشاركة




الثلاثاء، 20 يناير 2009

مقبرة المدرسة

نُشرت في مجلة نزوى الفصلية
الرحلة إلى المدرسة تبدأ بالرعب ولا تنتهي إلا بها. أسيرُ مشياً إلى مدرستي الابتدائية، يلاحقني كما يُلاحق غيري من الفتيات عصابةُ من الفتيان، الذين تتساقط من أفواههم كلمات هجينة، وألفاظ نابية لم تعرف التهذيب يوماً. تنضح حركًاتهم بسخريةٍ مقيتة وتنبؤ نظراتهم بكفاءة تخطيطهم الإجرامي في زرع الذعر والاضطراب في قلوبنا الصغيرة. أشعر بالخوف يجتاحني وأنا أسير وحدي في هذا الطريق الترابي. ألمحُ مجموعة من المشاغبين، أكاد أنُصت لدقات قلبي المرعوبة ،ولا أعرف كيف أُوازن بين الرغبة في البكاء، والرغبة في الفرار. أسقطُ أرضاً وتتسخ مريلتي المدرسية، شرخٌ صغير في بنطالي الأبيض حيث ركبتي تماماً، أشعر بالألم مع رؤيتي لقطرات الدم عليها. يومها أصررت على والدي أن يرافقني إلى المدرسة ، خجلت أن أذكر السبب الحقيقي وتعللت بثقل الحقيبة المدرسية. أصل إلى المدرسة وأُدرك أني قد تأخرت وأستحق العقاب !
ها قد أغفلت أن أذكر المجوسي الذي يتربع منزله قمة الجبل المجاور لمدرستي الابتدائية . لا أعلم من أين جاء هذا الشخص الممتلىء الجسم، ذو البشرة السمراء والصلعة الواضحة. يشدني الفضول لمعرفة أين يتجه بنظراته الغامضة، أُدقق في نظارته الدائرية الشكل ذات الإطارات السوداء ، أعلم أخيراً انه يتوجه إلى النار المشتعلة أمامه. يجلس على كرسيه كل صباح، أمام باب الدار تماماً، لا يمكن إغفاله أبداً والنار أنيسة صمته. هل كان بالفعل مجوسياً، أم كان من البانيان الذين تمتلىء بهم مطرح ؟ لا أعلم، ما كنت أخشاه هو المرور أمام الدار، فهو يستطيع بقدراته السحرية أن يحول الأطفال الصغار إلى أشكال حيوانات أو أية أشكال غريبة أخرى !
ارتعدت وأنا ألج المدرسة، فهناك ينتظرني المارد الجبار.. وكيلة المدرسة! نلتُ ضرباً مبرحاً على يديّ، عَشرُ ضربات كاملة بعصاً خشبية طويلة، مسحتُ دمعاتي على عجلٍ خشية أن يراني أحد. صعدتُ إلى الطابق الثاني من مبنى المدرسة، شعرتُ بشيء من الرهبة وقد خيم السكون على المكان، فخلف ساحة المدرسة تماماً تقع مقبرةٌ كبيرة يمكن مشاهدتها بأوضح ما يكون عند نهاية الرواق الطويل، تماماً حيث يقع فصلي الدراسي في أقصى مبنى المدرسة!
حاولت كثيراً أن أرى الأموات الذين يخرجون من المقبرة وهم يرتدون الملابس الحمراء ويلوحون لفتيات المدرسة بغية إخافتهن. زميلاتي يؤكدن على حقيقة ذلك ، بل ويسُقنَ من الأدلة ما لا يمكن إغفاله، فالأقمشة الحمراء تنتشربشكل ملفت على طول المقبرة، واستخدام هؤلاء الأموات لدورات مياه المدرسة لا غبار عليه!
الحقيقة أن الشك كان ينتابني بهذا الشأن ، فما حاجة الأموات إلى دورات المياه ؟ لكنّ زميلاتي يصّرن على رؤيتهن لعدد من الرؤوس، والجثث المقطعة، إلى جانب الدماء المنتشرة على أرضية دورة المياه. كان شكي ينقلب إلى تصديق كامل حين تنبعث الروائح الكريهة من دورات المياه، لمجرد المرور بقربها. بدأتُ أدرك أن الأموات يقتلون الفتيات المسكينات بطرق شنيعة.
رأتني مربية الفصل ، طوقتني بذراعها وهي تسألني بحنان: "هل ضربتك الوكيلة ؟ أريني يديك.. لا تتأخري مجدداً يا ابنتي . هل ترغبين أن أخبر والدتك بما فعلته الوكيلة" ؟ هززتُ رأسي بالنفي ، فقد كنت أكتم كل مخاوفي ومشاكلي عن والدتي ، وما صارحتها يوماً بما يحدث معي.
بدأت الحصة الثانية ، تهامست الفتيات حول الواجب الذي تم تكليفنا به، دخلت مُدّرسة الرياضيات ذات القامة القصيرة والجسم الممتلىء والمشية العرجاء. لها شفتان لم تعرفا يوماً معنى الابتسامة، ولها صوتٌ يرعد ويزبد بالسباب..بدأت تُراجع ( الكراريس)، وبدأنا معها نحبس أنفاسنا، فإحدانا اليوم ستكون قرباناً لهذا التنين الذي لا يهدأ إلا برؤية ضحيةٍ بشرية. إختار الوحش ضحيته، كشّر عن أنيابه ، وسرعان ما بدأت الضحية بالارتجاف ثم البكاء. تسارعت أنفاسنا ونحن نتابع مشاهد الرعب حيةً أمام أعيننا. لا لا لم يكن هذا أبداً من نسج مخيلاتنا الصغيرة، فها هي مُدّرسة الرياضيات تمسك بالطالبة المسكينة من شعرها وتدفعها إلى السبورة، والفتاة لا حول لها ولا قوة تتمايل إلى اليمين وإلى الشمال، وقد فقدت كل قدرة على المقاومة واستسلمت لمصيرها! كدتُ أتوسل إلى هذا الوحش أن يكفّ، لكني عوضا عن ذلك بكيت بصمت، لضعفي وخوفي على زميلتنا. يومها أٌصبت بإعاقة فكرية حول لغة الأرقام ، بدأت درجاتي بالتراجع، فقدتُ كل أرصدتي وأسهمي في هذه المادة، وفشلت في أن أعقد معها صلح سلام حتى هذه اللحظة!
لم تبدأ الحصة المدرسية بعد (الفسحة) كالمعتاد، فلدينا زوار!
ابتلعتُ ريقي ، وشعرت حينها بالرغبة في العودة إلى البيت والارتماء في أحضان والدتي ، أكره هؤلاء الزوار ولا أطيق ما يفعلونه بنا. فهذا وقت التفتيش الدوري على مقتنيات الغابات الأمازونية في رؤوسنا، تمر المفتشة الصحية لتفحص مدى نظافة شعرنا!
يا إلهي ما أقسى أن أقول أنها كانت تبحث عن القمل في رؤوسنا، ويبدو أنها كانت تبحث في المكان الصحيح !
شعرت بالانكسار وأنا أغادر الفصل مع آخريات إلى باحة المدرسة، الحزن كان يقتلني وأنا أرى نظرات الاشمئزاز في عيون صديقاتي ، ترى هل ستدعُني المفتشة وشأني إذا أخبرتها أن أمي تغسل شعري كل يوم وأن من نقل إلي القمل هي زميلتي الجالسة إلى جواري؟
"هيا اخلعوا الإيشاربات ، هيا سنضع الدواء في رؤوسكم" . هكذا صاحت المفتشة الصحية، كدت أسمعها تقول:
" رؤوسكم القذرة" ، وكدت أسبها وأشتمها وأقول لها بأن بنات هذه الحارة هن من يجلبن القمل إلينا، لكني شغلت بفك ظفائري الطويلة! ومن بعيد لمحت حارس المدرسة يراقبنا، فشعرت بالخجل وكدت أذوي من شدة الحرج، اجتاحتني كآبة مقيتة، صممت على الهرب إلى الصف لولا وصول المفتشة إليّ . سحبت شعري بقوة فتساقطت الأشرطة الحمراء على الأرض الترابية، أغمضتُ عيني وأنا أتخيل نفسي ذبابة عملاقة ، تُرش بالمبيد الحشري القاتل!
رائحة الدواء تزكم ذكرياتي حتى اليوم . بقيت في الساحة وحدي .. خاطبتني المدرسة: " لماذا لم تذهبي حتى الآن" ؟
كنت كالمبهوتة بما حصل ، تبعثرت ظفائري المجدولة ، وشعري الناعم أضحى منكوشاً ، وتلك الرائحة الكريهة تبعث فيني الرغبة في التقيؤ. تبلل إيشاربي المدرسي ببقايا الدواء، واتسخت أشرطة شعري الحمراء !
أجبتها بصوتٍ لا يكاد يُسمع : " أبله لا أعرف كيف أجدّل ظفائري من جديد ! كيف ألبس الإيشارب وشعري غير مرتب"؟
لم تبقى المدرسة لتسمع بقايا الهمسات ، رحلت ! وفي اليوم التالي تبادلتُ مكان جلوسي في الصف مع زميلةٍ أخرى!

2004

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق