أول الكلام


نقرأ معاً.. نفكر معاً..الحياة مشاركة




الأربعاء، 5 سبتمبر 2018

العودة الى الديار الحب الصادق في الريف الصيني



نُشرت في جريدة الزمن 



المقدمة:
كيف يكون الحب الأول ؟ وكيف يمكن تصوير قصة حب رومانسية عُذرية في زمنٍ تغيرت فيه معاني الحب وطرق التعبير عنه. من زمن الرومانسية والحب البريء يأتي هذا الفيلم الجميل، الذي يتحدث عن علاقة الحب التي نشأت بين فتاة ومدرس القرية، ورغم ذلك فإن هذه العلاقة تبقي علاقة بريئة طاهرة لا تتجاوز النظرات و لا تنقلب إلى علاقة جسدية ، محافظةً على نقاء الفكرة والمعنى ، فحتى كلمات الحب والغزل لن تسمعها في هذا الفيلم ، لكن حب هذه الفتاة الخالد يصلك من خلال نظراتها الوالهة، وابتسامتها الساحرة، وركضتها الطفولية بعد أن تختلق الصدف والمواقف  لتلمح المدرس خلسة ، وأخيراً تضحيتها وانتظارها الطويل  لأجل عودته في وسط الثلوج حتى تقارب الموت .

ولا يمكنك اغفال العادات والتقاليد التي تحتفظ بها هذه القرية النائية في شمال الصين والتي تمتاز بجو بارد تتساقط فيه الثلوج وتكثر العواصف الثلجية، فالمنازل بسيطة جدا في مظهرها الخارجي ومحدودة المساحة والاستخدام من داخلها، وأكثر ما يمكن مشاهدته في داخل المنزل هي تلك البطانيات والمعاطف اليدوية الثقيلة التي تزدان بألوانها المشرقة فتصنع لوحة جميلة مع المساحات والسهول الخضراء التي تحيط بهذه القرية الصغيرة.

الجنازة :
تبدأ أحداث الفيلم بالأبيض والاسود حين يقرر رجل أعمال شاب يعمل في المدينة العودة الى قريته البعيدة لحضور جنازة والده ،  الذي كان يعمل معلما في القرية طوال الأربعين سنة الماضية. توفي المعلم حين كان يحاول جمع المزيد من التبرعات لبناء مدرسة جديدة بالقرية، ولكنه علق في وسط عاصفة ثلجية شديدة ولم يتمكن من النجاة رغم أن القرويين نقلوه للمستشفى الا أنه فارق الحياة. يعود الشاب وهو شديد القلق على والدته التي وجدها تبكي خارج المدرسة التي كان والده يعلم أطفال القرية فيها. يخبره محافظ القرية أن والدته مصرة على دفن والده حسب التقاليد الصينية القديمة التي لم يعد أحدٌ يقوم بها لصعوبتها، والتي تقتضي بحمل الجنازة مشيا على الأقدام عبر طرق القرية وسهولها وأنهارها وصولا للمنزل حتى لا تضل الروح سبيلها في العودة الى الديار بعد الموت.

يخبر الشاب والدته أن معظم شباب القرية غادروها للعمل خارجا ولم يبقى الكثيرون لحمل الجنازة كل هذه المسافة خاصة في ظل الأجواء الثلجية الباردة. ولكن الأم تجيب باصرار بأنهم سيستأجرون الرجال من القرى المجاورة لحمل الجنازة إن تطلب الأمر. يرضخ الابن لمطالب والدته خاصة حين تقوم بنسج كفن والده على النول، وهو النول الوحيد الذي ما زال متبقيا في القرية.  وهنا يُصيب الُمشاهد شيء من الاستغراب فلماذا تصر هذه السيدة العجوز على اتباع كل تلك التقاليد القديمة والمنُهكة ونسج الكفن بيديها وهي امرأة كبيرة في السن بدلا من ابتياع كفن جاهز ؟  هل هي امرأة متصابية مثلا ؟ ولكن مع أحداث الفيلم يتكشف للقارئ قصة امرأة عاشقة وقصة طريق لطالما وقفت فيه الساعات والأيام في انتظار عودة الحبيب ، وهي اليوم تريد لروح هذا الحبيب أن تشهد للمرة الأخيرة تلك الرحلة التي كانت تقوم بها من أجله قبل أربعين عاما.

الفتاة القروية
وهنا يعود الابن الشاب بذكرياته الى الوراء وتنتقل الشاشة الى الألوان بدلا من الأبيض والأسود وكأنها تريد للمُشاهد أن يعود إلى ذلك الزمن الجميل الذي شهدت فيه القرية قصة الحب المشهورة بين والديه، حين تجّمع أهالي القرية برجالهم ونسائهم وأطفالهم في إنتظار معلم القرية الذي سيصل أخيرا ليعمل في المدرسة الصغيرة التي بدأ الأهالي ببنائها، ولم يكن من السهل الحصول على معلم يقبل العمل في تلك القرية الثلجية النائية. وحين أطل الشاب العشريني على جموع القرية وقعت عين دوا جميلة القرية التي أكملت عامها الثامن عشر على المدرس الجديد، لتتلاقى نظراتها مع نظرات المدرس الشاب ولنكتشف أن الأرواح يمكن أن تتلاقى بأبسط الطرق الممكنة .

برعت جميلة السينما الصينية شانغ زايي - التي ُعرفت بدور الفتاة الذكية والقوية في فيلم Crouching tiger Hidden Dragon- في تمثيل دور الفتاة البريئة التي تختلق المواقف التي يمكن أن نختلقها جميعا من أجل حبٍ بدأت تتكشف ملامحه وتشتد في القلب نبضاته فتدفعك الى اقتناص الفرص الممكنة والتي يمكن أن تفشل أحيانا لنحظى بنظرة واحدة من الحبيب ولو كانت نظرة عابرة وخاطفة.

الحب الخالد
إذاً وقعت دوا الفتاة الرقيقة في حب الشاب من أول لحظة رأته فيه، وأصبح عشقٍ لا يمكن مكابدته ، فقد كانت دوا تقف الساعات بانتظار خروج المعلم من المدرسة حيث يصطحب بعض الاطفال إلى منازلهم، وحينها تقف دوا لتشاهده من بعيد. وفي يومٍ ما همست له : غدا دورنا لاستضافتك للغداء. فقد كانت تقاليد القرية تقتضي باستضافة عوائل القرية للمدرس الجديد بشكل دوري. تعد دوا أفضل أطباقها، وتدرك والدتها السيدة العمياء أن ابنتها واقعه في غرام المعلم ولكنها تنصحها قائله : نحن لا نناسبه من حيث المستوى فكيف يمكن لابن المدينة المتُعلم أن يتزوج فتاة قروية بسيطة وغير متعلمة ؟ ولكن ما لم تدركه الأم أن المعلم كان واقعٌ أيضا في غرام الفتاة.

الفراق المرير
 يضطر المعلم الشاب الذهاب للمدينة واعدا دوا بالعودة في تاريخ محدد، ولكن الفتاة تشتاق لصوت معلم القرية ويُخيل لها أنه عاد مع طلابه الى المدرسة، تنطلق الى المدرسة لتجدها ساكنة، فتقوم بإعادة تزيين النوافذ وتمسح لوح الكتابة وتنظف الطاولات الخشبية. يلمحها المحافظ من النافذة ويدرك أن الفتاة عاشقة وهو ما يكون السابقة الأولى في تاريخ القرية حيث تعّود السكان على الزواج المرتب بين العائلات وعلى الحب الذي يأتي بعد الزواج. وفي اليوم المتوقع لعودة الُمعلم تنتظر دوا لساعات طويلة على قارعة الطريق رغم سوء الأحوال الجوية، ولكن المعلم ولظروف قاهرة لا يعود. تصاب دوا بحمى شديدة نتيجة لوقوفها ساعات طويلة وطس تساقط الثلوج ، إلا أن هذه الحمى لا تقعدها عن لبس أثقل ما لديها والتصميم على الذهاب إلى المدينة للبحث عن المعلم.  تسقط دوا مغشيا عليها في وسط العاصفة الثلجية، ويحملها رجال القرية وهم يتوقعون موتها، لكنها تبقى فاقدةً الوعي لعدة أيام حتى يصل الحبيب لزيارتها فيجدها مريضة وينصرف الى صفه. وحين تركض الفتاة الى المدرسة لرؤيته يتصايح أفراد القرية المجتمعين عند المدرسة : أيها المعلم .. دوا هنا.. دوا جاءت لرؤيتك !

تصبح قصة دوا ومعلم القرية أشهر قصة حب في القرية، ولكن الفراق يحل عليهما مره أخرى حين يُعاقب المعلم لتركه عمله في المدينة والعودة لرؤية دوا دون انذار مسبق ، وتبقى دوا في انتظاره لمدة عامين حيث تقف من جديد على الطريق كل يوم في انتظار اليوم الذي سيعود فيه، وحين يعود المعلم أخيرا يقرر البقاء معها ولا يفارق القرية منذ ذلك اليوم حتى موته و ليبقى مُعلم القرية الوحيد لأربعين سنة أخرى.

العودة الى الديار :
وفي يوم الجنازة يتفاجأ ابن المعلم بعدد طلاب والده الذين جاؤا لحضور الجنازة ،
حيث يقبل كل طلابه من قريتهم والقرى المجاورة ويصرون على حمل الجنازة والمشي بها ساعات طويلة دون مقابل ، وتقرر دوا دفن زوجها على التلة التي تواجه المدرسة وبجوار البئر المهجور الذي كان مهجورا حتى قررت دوا في شبابها سقي الماء منه لتكون قريبة من حبيبها. وللمرة الاخيرة يقرر ابن المُعلم جمع طلاب القرية ليدرسهم يوما واحدا اكراما لروح والده وتنفيذا لرغبة والدته، تتصاعد التحايا الصباحية من نفس الكتيب الذي كتب كلماته المُعلم حين كان شابا، ومعها تستفيق ذكريات الفتاة الشابة التي أحبت صوت معلم المدرسة وهو يصدح في القرية كل صباح.

حول الفيلم:
الفيلم من إنتاج شركة كولومبيان بكشر الامريكية وبالتعاون مع استديوهات قوانق اكساي الصينية، تعتمد قصة الفيلم  على رواية للكاتب باو شاي Bao Shi بعنوان الذكرى، وقام باخراج الفيلم المبدع الصيني (زانغ إيمو) Yimou Zhang، الذي عُرف باخراجه لعدد من الافلام الصينية الأمريكية المعروفة مثل فيلم Hero . عرض الفيلم في عام ٢٠٠٠ وحاز على جوائز في كل من مهرجان برلين الدولي ومهرجان سندانسSundance للأفلام المستقلة، وهو مهرجان أمريكي للأفلام المستقلة يقام سنويا في ولاية يوتا الأمريكية. تم تصوير مشاهد الفيلم في شمال كارولينا بالولايات المتحدة الأمريكية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق