أول الكلام


نقرأ معاً.. نفكر معاً..الحياة مشاركة




الأربعاء، 5 سبتمبر 2018

الفصول الثلاثة بائعة اللوتس وبقايا الحرب والطفولة المشردة في فيتنام



 نُشر في جريدة الزمن

فصول وشخصيات
ثلاثة فصول  Three seasonsوأربع شخصيات : بائعة لوتس وصبي يعمل كبائع متجول وسائق دراجة لتوصيل الركاب وفتاة ليل  في قصة شاعرية تجمع بين الحب وبقايا الحرب والطفولة المشردة ، والعنصر المشترك بين تقاسيم هذه الشخصيات هو الفقر الذي يحول حياة البسطاء الى حياةٍ أشبه بمسخٍ بشري يحتفظ في قلبه ببقايا انسانيته. يروي هذا الفيلم الذي أخرجه الفيتنامي المولد الأمريكي الجنسية توني بوي Toni Bui قصة شخصيات بسيطة تتقاطع قصصهم مع قصة جندي أمريكي يبحث عن ابنته التي أنجبها حين كان جنديا سابقا في فيتنام، وعبر الإطار الزمني الذي يمثل ثلاث فصول من السنة تتراوح بين الصيف الحار إلى تساقط الأمطار إلى الربيع تتغير حياة شخصيات الفيلم .

ويبدو أن الفيلم يصور أيضاً جزءاً من تجارب المخرج الذي غادر فيتنام  مع والديه الى الولايات المتحدة حين كان في الثانية من عمره وذلك قبل سقوط مدينة سايغون في جنوب فيتنام. وكان سقوط المدينة في يد قوات فيتنام الشمالية سببا في انهاء الوجود الامريكي في المنطقة، ليتم  بعدها تطبيق النظام الشيوعي الذي سرعان ما أصبح في صراع لاحق مع الرأسمالية والتغريب الذي غزا المدينة ببضائعه المستوردة وفنادقه الفخمة وسياحه الأجانب، وفي عام ١٩٩٩ تم تغيير اسم المدينة من سايغون الى (هوشي منه)، تكريما لمؤسس جمهورية فيتنام الشمالية. صور الفيلم في نفس العام وهو يقدم صورة للواقع الفيتنامي والتغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها المدينة.

فتاة اللوتس
يبدأ الفيلم بمشهد جميل لنساء فيتناميات يرتدين القبعات الفيتنامية المميزة الشكل ويتوجهن للعمل ، حيث يجدفن بقواربهن التقليدية لجمع أزهار اللوتس البيضاء في بحيرة يطل عليها معبدٌ شبه مهجور. تنظر الفتيات باستهجان الى فتاة اللوتس الجديدة التي تجرأت أثناء جمع أزهار اللوتس بغناء أغنية مختلفة عن تلك التي تؤديها إحدى عاملات اللوتس كل يوم. ينصرف ذهن الفتاة الى تأمل المعبد المهجور ، حيث تخبرها احدى الفتيات أن مالك أزهار اللوتس يقيم فيه ولا يخرج منه ، ذلك الشاعر الذي أُصيب بالجذام حين كان في ٢٦ من عمره ليعتزل الحياة والناس في مقعده المتحرك. يستدعي الشاعر الفتاة ويطلب منها أن تغني مرة أخرى تلك الأغنية التي غنتها حين كانت تجمع اللوتس، تلك الأغنية كما يقول الشاعر كان يسمعها في أيام شبابه حين كان كل شيئٍ جميلا وحين كانت نساء السوق العائم تغنينها. تقول فتاة اللوتس للشاعر المريض: سأعيرك يدي ، وتكتب له كل أشعاره التي لم يستطع كتابتها منذا أن فقد أصابعه.

عمالة الأطفال
في المدينة من جهة أخرى أطفال صغار يلبسون ثياب رثة ويعملون في مهن مختلفة تقتطف منهم طفولتهم وبرائتهم، نراقب قصة طفل يعمل كبائع متجول ، يبيع السجائر واللبان ومستلزمات أخرى في صندوق يحمله حول عنقة متنقلا بين السياح، يشفق عليه الرجل الامريكي الذي يبحث عن ابنته، يبادله الكلمات ثم يرحل ليكتشف الطفل ان صندوقه قد تمت سرقته، يبحث بيأس وحين يعود الى المنزل يخبره والده ساخطا الا يعود قبل ان يعثر على الصندوق. يتسكع الطفل في المدينة مع اطفال صغار يعملون باعة متجولون مثله، المطر ينهمر بشدة في طرقات المدينة،  يجلس الطفل بعض الوقت أمام شاشة تلفزيونية في محل الالكترونيات ليتابع بدهشة برنامجا كارتونيا. ربما اللقطة الوحيدة التي يظهر فيها الطفل مبتسما ومستمتعا بعمره الطفولي حين يلبي نداء اصدقائه للعبة الكرة تحت المطر، وهو ما لم يكن يفعله سابقا بسبب انشغاله بالعمل ، و بعد ان يحقق هدف الفوز في المباراة يعثر على صندوقه المسروق بجوار رجل مخمور . تختفي تلك الابتسامة ومرة أخرى نلاحظ الملامح الحزينة اليائسة على وجهه، يعلم الطفل يقينا ان التسكع ولعب الكرة ومشاهدة التلفاز لا يمكن أن يتكرر وأن عليه أن يعود للعمل في الصباح الباكر.

سائق الدراجة وفتاة الليل
تحمل فتاة اللوتس الأزهار لبيعها في المدينة ، حيث تشتد المنافسة بين أزهار اللوتس  الطبيعية وتلك الصناعية التي لا تذبل والتي يتم رشها بمادة معطرة لتبدو أكثر شبها بالأزهار الطبيعية. في السوق يعمل سائق دراجة هوائية مخصصة لنقل الركاب بهدوء وشبه تقبل للواقع الذي تعيشه المدينة ما بين ماضي يتسم بجماله وصفائه وحاضر يحاول أن يغير معالم المدينة وعاداتها . يقضي السائق الشاب وقت انتظاره للزبائن في المطالعة، ومراقبة الرجل الامريكي الخمسيني الذي يحمل معه صورة لامرأة فيتنامية جميلة يسأل عنها في كل مكان. وفي يوم ما ينقل الشاب فتاة ليل جميلة تقضي الليل في الفنادق مع السياح الباحثين عن متعة رخيصة مقابل خمسين دولارا. يقع الشاب في حبها ويلاحقها في عملها الليلي المتنقل بين فنادق سايغون، تقول له الفتاة انها لا تريد ان تستمر في هذا العمل وأنها تتمنى قضاء ليلة واحدة في غرفة فندقية مكيفة دون أن يلمسها أحد . يقرر الشاب دخول مسابقة لأصحاب الدراجات يفوز فيها ليحصل على ٢٠٠ دولار كجائزة، يقول للفتاة : لدي خمسين دولارا هل يمكنك أن تقضي الليل معي؟

موت الشاعر
في هذه المرحلة تعيش فتاة اللوتس ألم فقد الشاعر صاحب بحيرة اللوتس، الذي ارتبطت به وجدانيا والذي يترك لها كل أشعاره المكتوبة. وتحقيقا لأمنيته الأخيرة تحمل الفتاة أزهار الللوتس وتنثرها في قريته حيث النساء في السوق العائم يجلسن في قواربهن بلباسهن وقبعاتهن الفيتنامية التقليدية، وتغني فتاة اللوتس تلك الاغنية التي لامست وجدان الشاعر . فيما ينجح الرجل الأمريكي بالعثور على ابنته، يجلس معها في مقهى ويخبرها عن قصته مع والدتها ويطلب مغفرتها لعل ذلك يحقق له نوعا من السلام الداخلي مع هذا المكان، التي جاء اليها جنديا محاربا لينجب من فتاة فيتنامية ويتركها هي وطفلتها التي لم يرها ولم يحاول أن يراها طوال السنوات المنصرمة.

الرداء الأبيض
في الغرفة الفندقية المكيفة يهدي سائق الدراجة الفتاة رداءً منزليا طويلا زهري اللون ويطلب منها أن ترتديه، يمرر الشاب بيده على شعرها القصير ويطلب منها أن تستلقي على السرير. وهناك يتركها لتنام بسلام  ويرحل ليحقق أمنيتها التي حدثته بها سابقا. تتأثر الفتاة بالمعاملة المحترمة التي تلقتها من الشاب وترفض مقابلته لانها تشعر أنها كفتاة ليل لا تستحق أن تكون مع رجل صادق مثله. لكنه يتعلق بها، وعند قدوم الربيع يأخذها معصبة العينين الى شارع جميل وهي ترتدي لباسا فيتناميا وقوراً أبيض اللون لا يشبه شيئا ملابسها الكاشفة التي كانت تلبسها حين كانت تعمل كفتاة ليل. تنهال عليهما ورود الربيع من الأشجار التي تظلل الشارع وتبتسم الفتاة ابتسامة فصل جديد وبداية جديدة لينتهي الفيلم بهذا المشهد الخلاّب.

الجوائز الدولية
بعض الفصول يمكن أن تغير حياتنا الى الأفضل وبعضها لا تغير حالنا وتبقى قضية عمالة الأطفال هي الجزء الأكثر ايلاما في هذا الفيلم وكأن المخرج يريد أن يقول لنا أن الطفل لا يمكنه دائما ان يغير حياته البائسة كما يفعل البالغون لأن البالغون أنفسهم هم سبب تعاسة الأطفال. فاز الفيلم ولأول مرة في تاريخ مهرجان سندانس السينمائي في الولايات المتحدة بثلاث جوائز كبرى وهي جائزة لجنة التحكيم الكبرى وجائزة الحضور وجائزة التصوير السينمائي كما تم ترشيح الفيلم لجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي الدولي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق