أول الكلام


نقرأ معاً.. نفكر معاً..الحياة مشاركة




الثلاثاء، 6 يناير 2009

الجزء(4) الصف ورشة صغيرة

لم تتوقف هذه المدرسة عن إدهاشي، فقد كنت أجد ابنتي تحمل إليّ بين فترة واخرى لوحات رسمتها بريشتها. ولمعرفتي أن موهبة ابنتي في الرسم عادية فقد كنت أجد اسلوبها مميزاً ويتطور يوما بعد يوم، مزوداً إياها بتقنيات وأفكار جميلة ومبدعة صالحة للتطبيق من قبل غير الموهوبين، بل إنها تخلق موهوبا بتقنياتها الجميلة. اما حصص الموسيقى فقد كانت تسلية الطلاب جميعاً، حيث يصطف الطلاب جالسين بأريحية على أرضية الصف ليستمعوا إلى معلمة باسمة تعزف لهم على البيانو وتعلمهم كيف يتفاعلوا مع ألحان اناشيدها الطفولية.

ولم تكن حصص الرياضة من قبيل سد وقت الفراغ، فقد ارتفعت لياقة ابنتي البدنية بشكل ملحوظ وأصبح جسمها لينا مطواعا لحركاتها الرياضية، ولم يتوقف تشجيع المدرسة للرياضة عند هذا الحد، فقد كان درس السباحة في حوض المدرسة الخاص، درسا اسبوعيا اجباريا، يمرّن فيه الطالب على السباحة والغوص. وكانت إدارة المدرسة تشدد على صحة وسلامة الأطفال بالتذكير المستمر بضرورة تزويد الأطفال بكريمات الحماية من الشمس وارتداء ملابس السباحة التي تغطي أغلب الجسم للحماية من الشمس. بالإضافة إلى ان إدارة المدرسة كانت تشجع انضمام الطلاب للفرق الرياضية المختلفة بأسعار معقولة، إلى جانب دروس اليوغا المخصصة للأطفال.

لا يمكن القول ان النظام الدراسي الاسترالي خالي من العثرات، فأهم عيوبه أنه لا يستطيع منح الطالب الرؤية الشاملة والثقافة العامة التي كنا نكتسبها في مدارسنا، كما أنه لا ينمي ملكة الحفظ بشكل جيد، لكن أهم ايجابياته انه يخلق طالبا واثقا من قدراته ومعلوماته، يمتلك قدراً من الخبرة والممارسة التي تزداد بانتقاله إلى الصفوف العليا، وتمنحه المهارات الحياتية للتعامل مع من حوله بايجابية، كما انها تدرب عقله على التفكير والتحليل والاستقلالية. وإحدى الامثلة التي تستحضرني هنا، ان الطالب كان يحمل معه في بداية العام الدراسي ورقة تتضمن المواضيع التي ينبغي ان يقدم فيها الطالب عرضا امام زملائه، ولم يكن الامر يتطلب منّا غير مساعدة بسيطة كإرشاد الطفل إلى طريقة العرض والتقديم.

ويمكن القول ان النظام الدراسي لمدينة بريزبن على الأقل يعتمد على وضع عدسة مكبرة على عدد من القضايا والتركيز عليها لفترة دراسية معينة. فبدلاً من دراسة عدد كبير من المواضيع ، يتم التركيز على قضايا محددة . فمثلاً عوضاً عن دراسة مواضيع متشعبة من عالم الحشرات والبيئة والنبات، يطلب من الطلاب التركيز على موضوع واحد كالحشرات، وبدلا من دراسة هذه الحشرات على صفحات الكتب بشكل نظري او مشاهدتها قابعة في مختبر المدرسة، كانت المعلمة تعمد إلى تشجيع الطلاب على البحث عن هذه الحشرات في البيئة من حولهم وتزودهم بالأدوات اللازمة لالتقاطها بواسطة ملاقط صغيرة ووضعها في علب بلاستيكية شفافة. ومع نهاية الفصل المخصص لدراسة عالم الحشرات، وجدت ابنتي تمّيز بين انواع شتى من الحشرات وأسمائها المختلفة، بل وحتى الأنواع الخطرة منها، واهم خصائصها، وأحياناً الغذاء المفضل لديها!
والحقيقة اني لم اجد ابنتي يوما قد فتحت كتاباً لاستذكار وحفظ هذه المعلومات ولم يطلب منّا ان نقوم ( بتسميعها) لها والتأكد من مقدار حفظها، ورغم ذلك فقد تسنى لها معرفة اهم الحيوانات المتواجدة في البيئة الاسترالية واسمائها الصحيحة كما ينطقها اهل البلاد نفسها. المدهش ان ابنتي تتذكر المعلومات التي تلقتها في مدرستها الاسترالية قبل اكثر من سنتين، اكثر مما تتذكر المعلومات التي انهتها قبل سنة في إحدى المدارس الخاصة بالسلطنة!

ما أتذكره جيداً عن هذه المدرسة هو الصف الذي درست فيه ابنتي، فعدد الطلاب لا يتجاوز العشرين طالبا وطالبة وتنتشر في الصف طاولات جميلة يناسب ارتفاعها المرحلة العمرية للطلاب. أشعة الشمس كانت تنساب بكل صفاء عبر نوافذ الصف العريضة والممتدة بامتداد الصف. الصف عبارة عن ورشة عمل صغيرة، بالغة الجمال، وليس غرفة صغيرة كئيبة مطلية بلون موحد لا حياة فيه. الصف ينطق بأعمال الطلاب وابداعاتهم المعلقة بشكل جميل في سقف الغرفة. الصف يقول أن الطفل لا يأتي هنا لنيل شهادة والانتهاء من حفظ الكتاب الدراسي في نهاية السنة الدراسية، بكل ما يرافق ذلك من صرامة وحزم مبالغين فيه، بل ان الطفل يأتي هنا ليتعلم ويجرّب ويخطأ ويستكشف ويبدع. فلم يعد الصف الدراسي كما عرفناه ايام دراستنا وحتى الآن ذلك السور العازل بألوانه وحدوده الضيقة، بل هو ومنظومة الصف جزء من الطبيعة من حولنا، يتناغم معها الطفل ويتآلف مع مكوناتها ليصبح كل طفلٍ فيها مبدعاً وفرداً ذو استقلالية.

ترى لماذا حرصت على ذكر كل هذه التفاصيل بهذه الدقة؟ عذراً يا قارئي العزيز فأنا أرغب في ان تفهم سبب خيبة الأمل التي شعرت بها لاحقاً، حين أكملت ابنتي دراستها في عمان الحبيبة. ولماذا خيبة الأمل ؟ هنا تبدأ قصة جديدة من هذه اليوميات التي تلوح فيها ظلال بريزبن من بعيد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق