أول الكلام


نقرأ معاً.. نفكر معاً..الحياة مشاركة




الأحد، 14 سبتمبر 2014

فرصة للموت



نُشرت في مجلة شرق غرب ، العدد الأول 2014

فمي يغرق في بئرٍ ، وأنا أهوي في بئر ، والغرفة بئرٌ تتهاوى في بئرٍ آخر . الضوء ساطعٌ جدا في عينيّ رغم ظلمة البئر، ودمعي لم يتوقف منذ أن تم تقييدي من ذراعيّ . توقفتُ عن الحركة تماماً.. أصبح رأسي كالمشلول ، لستُ قادرا على استنشاق الهواء إلا بصعوبة شديدة، أكاد لا أبصرُ نفسي في هذه الغرفة المظلمة ، ورغم ذلك فإن هذا الضوء الساطع يُنهك عينيّ كما لو أن بهاراتاً حارقة أُلقيت فيهما.

وَقع خطواتٍ متباعدةٍ آخذةً في الاقتراب ، فتحجب الضوء الساطع عني ثم تُعيد تسليطهُ عليّ باصرارٍ أكبر. يحدق فيّ ظلٌ طويل ، يطيل التحديق حتى لا أكاد أشعرُ سوى بأنفاسه تخنق أنفاسي ، رغم ذلك فأنا لا أبصر سوى يديه الطويلتين اللتين تمتدان باتجاه وجهي . أشعرُ بألمٍ شديد ، بالدموع تنهمر من عينيّ، أرغبُ بالصراخ ، بطلب الرحمة منه، فلم أتوقع يوما أن تكون خاتمتي على هذا النحو . لكنه يتجاهل وجعي في كل مرة، بل يمسح بصبرٍ كل تلك الدموع المتساقطة، وكأنه يدعوني إلى سكب المزيد منها ! ثم يبتسم ابتسامةً غريبة، وكأنه يطمأنني أني لن ألقى حتفي هذه المرة، بل سآتي اليه طائعا حتى يكمل تعذيبي، وأننا في كل مرة سنتقابل وجهاً لوجه في فرصة جديدة للموت.

ليس وحدهُ في الغرفة، سيدةٌ أخرى ذات قامة قصيرة، تحملُ إليه بعض الشفرات الحادة، ومواد بيضاء لزجة ، وشرائح معدنية رفيعة متناهية الصغر. أشعرُ بالتقيؤ من الروائح التي بدأتُ باستنشاقها. سرعان ما فقدتُ الإحساس بملامح وجهي، صرتُ أنتفضُ من الوخزات المؤلمة التي زادت حدتها مع الوقت، وصاحبُ الظل يطلب المزيد والمزيد..المزيد من ماذا؟ ما عدتُ قادراً على التمييز فقد بتّ أشعر أن  وجهي قد أنقسم إلى نصفين وأن يداي في طريقهما الى نفس المصير. أحاول تلّمس ما تبقى من قدميّ . أجدهما ما زالتا ساكنتين، أحاول تحريكهما ولكن قوة ما تدعوني الى التعلق بالكرسي الذي قُيدتُ فيه.

أعودُ الى التقيؤ، أحاول أن أصرخ الآن ولكن البئر الذي أقع فيه مظلمٌ جدا، يشغلني الظلام عن الصراخ. أتذكرُ ولعي الشديد بالظلام حين كنت صبيا، وكيف كنت أخرج في منتصف الليالي الباردة أحاول ضبط السارقين والخائفين والعابثين الذين يتخذون من الظلام ستارا لأفعالهم. حاولتُ ان أرقص يوماً في جنح الظلام حين كان المطر الدافىء يتساقط في الخارج، لكني يومها شعرتُ بالبرد يسلك طريقه في عظامي النحيلة. عظامي الآن أقوى بعشر مرات لكني اليوم أشعر بالبرد ذاته، وكأن الثلوج تفترش ساقيّ . ليس في هذا البئر سوى المزيد من السقوط، كلما زادت فرصة بقائي هنا زادت فرصة وقوعي في آبار آخرى ، ذلك أني لم أتوقف عن السقوط منذ أن تم اقتيادي إلى هذه الغرفة، وفي كل مرة يزداد سقوطي عمقا، ومع السقوط اشعر أني احفر المزيد من القاع تحتي، وفي كل مرة انجو من البئر لأجد بئرا آخرا يفترسني أنا والبئر السابق. لماذا لا انفذ بجلدي، لماذا لا اتناول بعض الشفرات والمشارط الحادة الملقاة على الطاولة أمامي وأهدد بها صاحب الظل والسيدة القصيرة ؟

أحاول أن أمد يدي باتجاه المشارط العديدة ، ولكن اللوحة الواقعة فوق الطاولة تلفت انتباهي ، نسخةٌ من لوحةٍ زيتية  لزهور عباد الشمس تحملُ توقيع فان جوخ . هل من المصادفات أني اقتني اللوحة ذاتها؟ هل من المصادفات ان أقضي حتفي إلى جوار اللوحة المفضلة لدي؟ ربما في ذلك عزائي الوحيد !

 شعرتُ بقطراتٍ باردة تتساقط على أذني..أرعبتني الفكرة حد الموت. وما الذي أنا فيه اذاً غيرُ الموت؟ لا طاقة لي على العذاب قبل الموت .. إذا كان الموت قادما فلا يجب أن يكون التعذيب على طريقة فان جوخ ، لن أقوم بقطع اذني حتما.. ولكن يجب أن أتحرك بعنف أكثر ، أصدرتُ بعض الاصوات الغاضبة  لكن السيدة القصيرة رمقتني بنظرات مخيفة ، وفي يديها لمحتُ أشرطةً لاصقة وكماشاتٍ صغيرة لا تُستخدم إلا لقلع العين أو الأسنان . رباه أين أنا ؟ أيُ زنزانةٍ هذه التي تُمارس فيها أساليب تعذيب وحشية من عصور بائدة .. حاولتُ التحرك بكل قوتي وقد بدأ عرقي يتساقط غزيرا ودموعي كادت أن تجف بلا أمل. حاولتُ أن اتلفظ ببعض الكلمات ولكنها خرجت كهمهمة مضحكة، عاودتُ المحاولة ولكن الصوت المدوي في الغرفة أصابني بالصمم، الحفارة أصبحت في منتصف الغرفة، وبدا وكأنها تحاول أن تحفر حول كرسي التعذيب، ثم شعرتُ بها في مؤخرة رأسي وهي تدوي وتدوي دون توقف ، عشرات الأحجار شعرتُ بها تتهاوى على خدي، كميات هائلة من الركام في فتحة أنفي، عيناي لا تقويان على البقاء فيصرعهما الغبار المتصاعد من الاحجار والركام.

بدأتُ اتقيؤ من جديد ، لكن هذه المرة أُجبرت على ابتلاع قيئي ، بلعتهُ مرار وتكرارا، حاولت أن ألقيه خارج فمي ولكن الظل يلاحظ ذلك ، يُعاجل بادخال الكماشات إلى فمي حتى يمنعني من اغلاقه وأُجبر على بلع كل تلك المواد اللزجة التي يسكبها في فمي. بدأ صاحب الظل يدرك بمقاومتي ورغبتي في الفرار ، شعرتُ بقطراتٍ من الدم على ذقني، تمسحها السيدة القصيرة على عجل ، ليسارع صاحب الظل بادخال المزيد من الشفرات والكماشات الى فمي، لماذا يقتلعون اسناني؟ لماذا يحاولون تعذيبي بهذه الطريقة قبل الموت؟ هل سأكون يقظا حين يأتي الدور على قلع عينيّ؟

ولكن مهلا.. وقف صاحب الظل فجأة ، تسارعت ضربات قلبي ، شعرت بالشفقة على نفسي، أليست نفوسنا أولى بالشفقة قبل الغير، لم أكن في حياتي سوى شخصا عاديا قنوعا بما لدي ، لا استحق هذا المصير ، ربما حادث سيارة على الطريق كافيٌ حتى أموت بسرعة ودون ألم كبير.

أقترب مني صاحب الظل من جديد ، في إحدى يديه الآن ما يشبه المنجل، في يده الأخرى ما يشبه المقص الزراعي الذي أراه يوميا في يد الُمزارع في منزل جارنا، هل يعلم الُمزارع بما يحدث لي؟ هل يعلم ان المقص الذي يستخدمه في تقليم الأشجار يمكن ان يتحول إلى اداة تعذيب بشرية؟  المقص يحوم حول وجهي تماما، أشعرُ به يهوي نحوي. الضوء الساطع الآن على وجه صاحب الظل، لمحتُ نظارته الدائرية السوداء، المقص ما زال يتحرك على وجهي، لا أعلم أين بالتحديد ولكني اشعر أنه يحاول استئصال شيٍ ثمين مني ، أشعر بشيٍ من الضغط على صدغي ، صاحب الظل يقف ويجلس مرارا وهو يحرك المقص في كل الاتجاهات على وجهي، اشعرُ بثقل يديه على المقص، يضغط عليهما بكل قوة ، يدفعني قليلا  ثم يقتلع شيئا ما ، لم اتبين ما هو بالضبط، لكني اشعر بأني أغرق مجددا، أغرق في البئر التي كنت أهوي فيها منذ صباح اليوم دون توقف . لا بد اني أعبر الحياة الآن إلى عالم ما بعد الموت .. الضوء الساطع تلاشى ، لوحة فان جوخ تبدو أجمل وأجمل، الشفرات اختفت من على طاولة التعذيب..اتراخى في هدوءٍ عجيب..  و فجأة أشعر بمن ينتشلني بقوة من تلك البئر القابعة في بئر ، تلك التي تهوي إلى بئر.. !


يدٌ ناعمة تُربت على خدي ، توقظني بكل هدوءٍ من النعاس الذي داعبني في اللحظات الأخيرة.. يخاطبني صاحب الظل مبتسما بعد أن أزال الاصفاد عني : ( مبروك خلعنا ضرس العقل .. وقد كنتَ متماسكا جدا، لم أقابل من قبل مريضا يستلقي في سبات عميق عند خلع ضرسه). بلعتُ ريقي وأنا أحدثُ نفسي : (هل يا ترى ينبغي أن أخبره بالأحلام الوردية التي كنت أنعم بها ايضاً) ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق