أول الكلام


نقرأ معاً.. نفكر معاً..الحياة مشاركة




الأحد، 14 سبتمبر 2014

قبل العيد


إحدى قصص مجموعتي  (ما وراء الأمس) التي صدرت عام 2011 عن دار نينوى


الساعة الثامنة والنصف صباحاً:
حارقةٌ شمس هذا الصباح، ككل صباحات مسقط، قاسيةٌ هذه المدينة الجميلة في شهور الصيف الطويلة. يفتر ثغر(ربيع) عن ابتسامةٍ متفائلة، يدعك عينيه برفقٍ ليزيل غشاوة ليلةٍ مضت.. تناول شايه على عجل.. ثمة رائحة عطرٍ رخيص تنبعث من دشداشته المكوية. عدة دقائق تنقضي في تثبت العمامة الخضراء الباهتة، محفظته المهترئة تكتظ بالأوراق والقصاصات والأرقام المختلفة.
تلفحه أشعة الشمس القوية قبل أن يلج سيارته متجهاً إلى البنك، تأخذه أفكاره بعيداً عن الطريق والزحام وإشارات المرور المزعجة.. فهذه أول مرة يطل فيها العيد من واجهة البنك. في محفظته الجلدية شيكٌ كسب مبلغه من بيع الأسهم المحدودة التي كان يملكها. ترى أي الديون سيبدأ في سدادها أولاً؟

الساعة التاسعة وعشرون دقيقة:
ابتسامته الواسعة تشق باطمئنانٍ ملامحه الثلاثينية المستكينة، أحس باسترخاءٍ ممتع وهو يتوسد إحدى المقاعد الوثيرة بالبنك، تشده ذكرى أمسيات العيد البريئة، تعود ذاكرته لتبدّد بانزعاجٍ موّال العيد الطويل، تماماً كمتشرد وحيد، تتلقفه الأماكن والشوارع، وها هي ذي بيوت الأهل والأقارب تشبعه بالضحكات والتهاني.. وثمة نظراتٍ أخرى تراقب الوريقات المتغضنة، تلك التي يدسها في راحات اليد الصغيرة، وحده المساء يعيد إليه الثقة في جمال العيد من جديد.
(موناليزا) أخرى ترتسم على محياه وهو يحسب الدقائق التي مضت منذ أن أخبره الموظف الحليق ذو النظارات الدائرية السوداء أن ينتظر قليلاً. رددها ربيع بقوة : قليلاً، ريثما ينتهي من بعض المعاملات.
دقاتٌ متوترة على الأرض الرخامية تُنبأ عن ضيقه من انقضاء نصف الساعة دون طائل، من ترى كان يسمع حوقلته وتمتماته الساخطة؟
هب واقفاً يروم السؤال، انشغل عن قراره بمراقبة شابٍ في نحو العشرين من عمره، جذب من محفظته الفاخرة مشطاً صغيراً.. وسرعان ما عادت خصلات شعره التي بعثرها الانتظار إلى الغابة السوداء مجدداً. تذّكر ربيع صلعته البادية الظهور، والشعيرات البيضاء التي بدأت تغزو سوالفه.. زّم شفتيه وهو يتطلع إلى نفسه في الزجاج اللامع من خلفه. بعد 45 دقيقة من الانتظار، منحه الموظف بعض الاهتمام..
(عندك حساب)؟
هزالموظف راسه محتاراً لمّ أن كانت إجابة ربيع بالنفي، أشار له بالدخول إلى المكتب المجاور.. طالعته بلوراتٌ ملونة، خمن ربيع ان الفتاة تلبس عدسات لاصقة، فكر مندهشاً ( كيف يرتدي الناس في أعينهم أشياء مزيفة)؟
زفر بقوة والموظفة تطلب منه الذهاب إلى الفرع الآخر للبنك في منطقة(.....) هناك فقط يمكن حل معاملته، ربما مع أعين حقيقية!


الساعة الحادية عشر:
خرج ربيع من البنك الثاني، ما كان بحاجةٍ إلى الانتظار مرة أخرى، البنك كان خالياً إلا من بعض الإداريين، همس أحدهم وهو يقترب منه..( لوسمحت يا أخي ما هي عاصمة النرويج)؟ وبنظرةٍ خاوية لمح ربيع مربع الكلمات المتقاطعة.. ثم أجاب الرجل: ( يمكن اوسلو) !

الساعة الحادية عشر والنصف:
ها هو الآن في أحد البنوك الأجنبية، ألتقط أنفاسه، ثم أطلق تنهيدة حارة، أودع فيها تعب الساعات التي مرت، لم يكن أحد من الموظفين المتواجدين في البنك مستعداً للطابورالطويل من المراجعين، وعقارب الساعة لا تأبه لعصبية ربيع الآخذة بالانفجار.
بعد عشرين دقيقة من الانتظار، هتف الجميع فجأة ( الحمد الله.. الحمد الله) ، جاء أحد الموظفين أخيراً، تخلصت ساعة ربيع من ضغط أصابعه المتشنجة، والتي كادت أن تودي بساعته الثمينة، والوحيدة..!

( لا بأس من الانتظار عشر دقائق أخرى) حدّث ربيع نفسه وهو يعدّ الست أشخاص قبله والثلاثة الذين لا يكفون عن التذمر منذ أن لحقوا به.. سمع أحدهم يقول لرفيقه (تعرف يا سليمان ان في البنوك البريطانية ما ممكن تنتظر أكثر من خمس دقائق في أي حالٍ من الأحوال)؟
أجابه سليمان وهو يرفع كتفيه، ويهز رأسه في كل الاتجاهات(عادي يا محمد.. بعد كل هذا العمر تعودنا)!
حدّث ربيع نفسه بتسامح( ما يخالف.. بكرة عيد، الناش مشغولين).
انتقل ربيع إلى عهدة موظف آخر، تساءل الرجل عن استمارة الايداع، ضرب ربيع كفاً بكف وهو يعاتب في سره ذلك الموظف المهمل، بينما أخذ الموظف الثاني يعباً الاستمارة، انشغل ربيع بالنقوش الجميلة في سقف القاعة، حانت منه التفاتة إلى القلم الذهبي الذي يستخدمه الموظف، هتف ربيع بهلع ( لأ.. لا يا أخوي، هذا ما 700، هذا 1900) تنحنح الموظف محرجاً، ثم اعتذر قائلاً:( آسف نسيت نظارتي اليوم، ممكن تقرأ لي الرقم)؟
وهل يصلح العطار ما أفسده الدهر؟ هكذا تمتم ربيع وهو يقرأ الرقم باللغة العربية، يبدو أن الرجل يُتقن اللغة الانجليزية بشكلٍ جيد، لكن بدون أرقامها!

الساعة الثانية عشر وعشرون دقيقة:
ركن سيارته بالقرب من سوق مطرح، لمح بائع القهوة والفناجين التي تهتز بين أصابعه مصدرةً رنيناً جميلاً، ترافق مع رائحة البن والبهارات والعطور الشعبية التي تآلفت في مزيج مدهش مع أصوات الباعة ومجادلات المشترين. وقف يراقب للحظات العمال الآسيويين وهم يصلحون أنابيب الماء المعطلة، تجاوزهم وهو يقي دشداشته من الأرض الأسمنتية المبللة.. غداً مساء العيد سيلبس دشداشته الجديدة، سينطلق مع أصدقاءه في رحلةٍ خلويةٍ لعدة أيام، قليلةٌ هي المناسبات التي يلتقي قيها مع أصدقاءه المتزوجين، لحظات الإنعتاق تلك تحرره من ظلال الوحدة التي سطّرها بعزوفه عن الزواج.
(فشنك.. فشنك)..
(الله لا يبارك هذي الأنابيب.. يلعن..) وانطلق سباب ربيع ليصل إلى العمال والمارة والنساء الملتفات بالعباءات السوداء. أخذن يتهامسن وقد أخفين ضحكة مكتومة على الرجل السيء الحظ، والذي انفجر فيه احد الأنابيب بقوة، مسبباً تطايرالرذاذ من برك الماء الصغيرة التي كونتها إحدى الحفر الكثيرة في الشارع. انطلق الماء حاملاً معه الطين والوسخ الذائب ، تماماً نحو دشداشة ربيع.
نفض ربيع دشداشته بقوة، وهو يفكربالهيئة المزرية التي سيدخل بها المسجد القريب، سيصلي في أبعد زاوية فيه. تمنى لو أن مصباح ذلك الركن ما يزال محترقاً، حينها سيصعب ملاحظة ما حل به. تسمر فجأة في مكانه وهو يلمح اللافتات قبالة المسجد، أقفل راجعاً من حيث أتى وهويلعن حظه.
( حتى ربي طردني اليوم من رحمته.. المسجد مسكّر للإصلاحات). بدا الاحمرار شديداً في أرنبة أنفه، أخذ يدمدم غاضباً، رفع كمه عالياً وأزال بها خارطة العرق من على أديم وجهه، انتزع عمامته حانقاً وهو يردد ( استغفر الله.. استغفرالله)، تناهى إلى مسمعه صوتٌ يبدو شديد القرب منه..

(تشك.. تشك.. تشك) وبطريقة عددية منتظمة تردد الصوت الغريب.. توقف ربيع عند إحدى حفر البالوعات، أسند جسمه إلى إحدى السيارات التي علاها غبار الطريق.. جذب نعاله بشدة.. حملق في القطعة المطاطية للحظات، ثم انتزعها من مؤخرة نعاله، ابتسم بتشفي وهو يراقب قطعة اللبان وهي تهوي في البالوعة المفتوحة، تابع طريقه بعد أن مسح نعاليه على إحدى درجات محل الأقمشة المشهور، لم ينسى التأمل كعادته في ألوان المخمل الدافئة، تذكر قول سقراط لأحد تلاميذه: ( يجب أن تتزوج يا بني، فإنك إن ظفرت بزوجةٍ طيبة عاقلة صرت سعيداً، وإن أخذت زوجة طائشة مناكفة صرت فيلسوفاً) ابتسم بمرح وهو يحدّث نفسه: الزوجة العاقلة مفقودة، وأنا ليست لدي أدنى رغبة في ان أكون سقراطاً..!

سرعان ما تلاشت ابتسامته وهويتذكر وعده لأمه بأن يحمل شيئا من هذا المخمل يوماً ما إلى عروسه. تابع طريقه وهو يشعر بالغبطة لمرأى سائقي السيارات وهم ينقبون عن أماكن يحشرون فيها سياراتهم، شعر بشيءٍ من الخيلاء وقد نجح هو في الحصول على الموقف المناسب، كاد يهزأ ضاحكاً من إحدى الفتيات، التي كانت تحاول حشر سيارتها في مكان ضيق، أخذ يحصي عدد مرات محاولاتها الفاشلة. تمتم وهو يلج سيارته ( يا للفتيات الغبيات).. ثمة ما أوقفه عن المضيّ في سخريته.. ورقةً صغيرة على واجهة سيارته البلهاء التي ظلت واقفة دون حراك. أحكم قبضته وسددها بغيظ إلى هيكل السيارة، تمنى لو ينتزع إشارة ممنوع الوقوف من على الأرض. لو كان بشيءٍ من الطول لأمكنه رؤية اللوحة. قبضته ما زالت محكمة، وهو يقرأ اسم الشرطي الذي حرر له المخالفة، تصاعد غضبه حين لم يتعرف عليه، لا مفر إذاً.. لا بد من دفع الغرامة.

(عيدية يا عمي.. عيدية)
حدّق بدهشة في اليد الصغيرة المخضبة بالحناء.. الشمس حارقة، والورقة تتكور بين أصابعه.. ثمة عضلة نافرة تتقافز في خديه، رغب بالصراخ، تراجع.. ظل صامتاً.. تسارعت أنفاسه.. صمم وصرخ بكل الضيق الذي يعتمل في داخله:
(سير عني .. ماشي عيدية.. ماشي عيدية)
مدّ الطفل لسانه وأخرجه في وجه ربيع، ثم هرع إلى شخصٍ آخر، وبنفس الترنيمة البريئة ردد:
( عيدية يا عمي.. عيدية)
صرخ ربيع من الشارع المقابل ( قلنالك، العيد بكرة.. بكرة يا ولد الناس)
اتسعت عيون الصبي من الدهشة، سوّى دشداشته المنتفخة بالبيسات، تأبط شراً، هكذا خُيل لربيع، صرخ الصبي: ( إذا انت بخيل وما تريد تعطيني العيدية.. لا تطّير عني عيدية الأوادم)!

ابتلع ربيع الإهانة.. تحسس المكان حوله، فناجين القهوة توقفت عن الاهتزاز، حركة السوق تباطأت، صحكات النساء الملتفات بالعباءات تصله عبر مكبرات الصوت، البهارات الحارة تفسد عليه تنفسه..
ألقى بعمامته في السيارة، ضغط بشدة على ورقة المخالفة، كوّرها من جديد، ثم ألقاها على أرضية السيارة، شغلّها وانطلق بها لا يلوي على شيء.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق