أول الكلام


نقرأ معاً.. نفكر معاً..الحياة مشاركة




الثلاثاء، 16 سبتمبر 2014

نوح والطوفان



كيف يمكن وصف هذا الفيلم الامريكي الجديد عن النبي نوح عليه السلام وقصة الطوفان ؟ ببساطة لا أجد إلا كلمتيّ مادي وروحي لوصف ما يتميز به هذا الفيلم وما يفتقده حقا. بعيدا عن الجانب الشكلي الذي اتصفت به ازياء شخصيات القصة والتي قاربت ازياء المشردين في العصر الحديث ، فإن الفيلم يفرغ شخصية النبي نوح من أي جانب روحي إلهي، ويقدمه كشخص اختاره الله واعطاه بعض القدرات حتى يقوم بمهمة مادية بحتة نيابة عن الله سبحانه وتعالى. وهذه الفكرة ليست غريبة عن التراث الغربي المادي الذي لم يترك كتابا تاريخيا او دينيا لم يعتمد عليه كمرجع في حياكة افلامه لكنه يتعمد استبعاد القرآن الكريم رغم كل ما يملكه القرآن من استعداد لغوي وحسي وروحي لتقديم قصص وملاحم تاريخية ثرية. وهذا التغافل عن أحد مصادر التاريخ المهمة يوقع الكثير من افلام الانبياء التي تنتجها السينما الامريكية في مطب المادية وتجاوز الحقائق بل وربما تشويهها. 

لم يكن النبي نوح في الفيلم الامريكي سوى شخص يحاول ان ينفذ مهمة مادية محدودة بحذافيرها وهي بناء السفينة وانقاذ الحيوانات على الارض دون البشر ، لان البشر لا يستحقون النجاة بسبب ارتكابهم لجرم اكل اللحم الحيواني ! وبهذا يظهر نوح وعائلته كنباتيين وضد فكرة اكل الحيوانات ولهذا توجب انقاذ هـذه الحيوانات. أين البشر في هـذه القصة العجيبة ولماذا لم تكن لنوح أهدافا سامية بانقاذ البشر وتحريرهم من شهواتهم الاخرى؟ لماذا تم اقتصار الاثم البشري على تناول اللحم الحيواني وتم التغافل عن اساس رسالة النبي نوح وهي الدعوة الى التوحيد؟ هل لأن الدعوة الى التوحيد هي رسالة روحية غير مادية بالدرجة الاولى ؟ هل لأن النبي ليس فقط شخصا تم اختياره ليقوم بمهمة ارضية مادية جسدية كبناء السفينة ولكن لأنه شخصية قاربت الكمال ومهيئة لاستقبال الفيض الالهي ومهيئة لهداية واصلاح البشرية؟

وكعادة أفلام الانبياء الامريكية فإن سمات النبي الشخصية والقيادية لا تتميز بذلك الاستقرار النفسي والثقة الربانية التي تظهر بها شخصيات الانبياء في السينما الايرانية على سبيل المثال. ورغم اختلافنا او اتفاقنا حول فكرة تجسيد الانبياء فإن السينما الايرانية بارعة في تقديم شخصيات الانبياء واظهارهم كشخصيات قيادية تملك من العزم والثقة في نفسها وربها ما يجعلها مستقرة داخليا، قادرة على اتخاذ قراراتها ولا تتعرض لهزات تؤدي بها الى ارتكاب المحرمات. وفي الفيلم الامريكي نجد ان نوح يعيش حالة من الارتباك النفسي عند استقرار الطود ويبدأ بالشعور انه اخفق في انجاز مهمته واخفق في تحقيق امنيات عائلته فيعتزلهم ليسكر وليستلقي عاريا دون ادراك من فرط شربه. ليست المشكلة هنا في مقاربة الخمر التي لا ادري حقا هل كانت مذمومة ام لا في تلك الفترة التاريخية وانما هي صورة النبي المحبط الفاقد لنفسه وادراكه وعزيمته. هي الصورة التي تشعرك بالرثاء على هذا النبي. نعم قد يقول البعض وهل النبي الا بشري في نهاية الامر؟ بالفعل وربما اجمل حالة توضح بشرية النبي  وربما ارتباكه اللحظي، وتدفعك الى التعاطف معه بكل حواسك هو مشهد من الفيلم الايراني السيدة مريم ، حين دخل النبي زكريا على السيدة مريم ووجد عندها رزقا و تسائل بدهشة عن مصدر هذا الرزق، وادرك في الحال ما فطنت اليه  مسبقا مريم البتول وهو ان يسأل الله ان يهبه ما يريد ! وهكذا دخل زكريا المحراب وبجوارحك ولهفتك على هـذا النبي تدخل معه المحراب باكيا وتتابعه بكل روحانية وهو يسأل الله ما غفل ان يسآله طوال عمره الذي مضى وهو ان يهبه ولدا من بعده. هذه الصورة الرائعة تظهر النبي زكريا قويا رغم ضعفه، واثقا رغم دهشته، سامياً رغم مطامحه البشرية.


المشكلة الاخيرة التي لا تفتأ تطارد السينما الامريكية التي تحاول محاكاة عصور أخرى لا تقاربها تاريخيا هو عدم قدرتها على التجرد من سياقها الاجتماعي والثقافي والخطابي، وربما يكون ذلك اصعب التحديات التي يواجهها كتاب السيناريو. فأسلوب التخاطب والتعابير التي يتم استخدامها، بل بعض الممارسات الاجتماعية كتقديم القهوة مثلا والتي ظهرت في الفيلم مماثلة للسياق الغربي الحديث ولا تعبر عن فترة تاريخية تعود الى الآف السنين حيث عاش الناس وتواصلو وتحدثو باسلوب يختلف عن التواصل البشري اليوم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق