أول الكلام


نقرأ معاً.. نفكر معاً..الحياة مشاركة




الثلاثاء، 20 يناير 2009

الإعلام العربي وحرب المصطلحات

خطا الإعلام العربي خطوات ايجابية في السنوات الأخيرة فيما يختص بطرح ومناقشة العديد من القضايا العربية ، إلا أن دعوى الحيادية التي تريد أن تتبناها وتتخذها شعاراً بعض وسائل الإعلام العربي ، قد أصبحت تشكل حاجزاً ضد تبني قضايانا الملحة والدفاع عن حقوقنا بقوة بل وبشراسة ، وبدعوى الموضوعية ربما ابتعدنا عن نقد النقد الذي تمارسه وسائل الإعلام الغربية ضدنا ، وبدعوى الموضوعية انحصرت جهودنا في كوننا مجرد مدافعين لكل ما نتعرض له من اتهامات ، ونستميت في هذا الدفاع حتى الإنهاك ، ورغم ذلك لا نحصل على التغيير المطلوب . على الإعلام العربي أن يتخلص من عباءة المظلوم واستراتيجية المدافع الذي يحاول أن يثير تعاطف العالم وشفقته لكل الحروب النفسية والمادية والثقافية والسياسية التي يتعرض لها ، على الإعلام العربي أن يتخلص من عقدة المضطهد والحبيس دوماً .

إنه عصر المقاومة ، هذا هو الشعار الذي ينبغي أن نتبناه ، إنه عصر الهجوم وليس الدفاع ، فقد دافعنا طويلاً ، ولم نجني من الدفاع غير الذل والتناسي . إلى جانب ذلك فقد غدت مواطن ضعفنا مكشوفة لمن يريد استهدافنا ولن تزيدنا سياسة الدفاع إلا تعرية ، علينا أن نتقن استراتيجية الهجوم الإعلامية ، ما دمنا فاشلين فيها سياسياً - عدا بعض الاستثناءات المشرفة- علينا أن نواجه الاتهامات الموجهة إلينا لا بالدفاع عنها بل بسياسة الهجوم المضاد ، وجعل الطرف الآخر في موقع المدافع ، وهو ما يكسبنا الأولوية في التحرك والابتكار .

تمارس الولايات المتحدة- منذ أمدٍ طويل- سياسة خلق المصطلحات ، وهي بذلك تصف المجاهد بالإرهابي ، وتصف الثائر بالمتمرد ، وتصف من يطالب بحقوقه بالخارج عن القانون ، وتحيل المُعتدي إلى معتدى عليه ، وتصف الاحتلال بالتحرير ، وتنتهك حقوق الإنسان علانية فيما تشجب الممارسات ذاتها بشكل انتقائي واضح . هل سيبقى الإعلام العربي متلقي مثالي لهذه الحماقات ؟
ومتى سيدخل صناعة المصطلحات هذه ؟ متى سيقلع عن إطلاق لفظ الدولة على اللقيطة إسرائيل ؟
وللإعلام العربي سوابق تُحنى لها الرؤوس خجلاً ، ألم يكن هذا الإعلام يتعامل مع المقاومة الإسلامية - قبل انتصارها- في جنوب لبنان باعتبارها حزباً إرهابياً يستهدف المدنيين الإسرائيليين ؟ يا للأبرياء !! ويا للعجب !!!

من المخجل أن تتنقل بين الفضائيات العربية فلا تجد تغطيةً للحفل التأبيني الذي أقامته حركة حماس لتأبين الشيخ الشهيد أحمد ياسين إلا في قناة فضائية تفردت بنقل الحدث ، في وقت يطل علينا الإرهابي الأكبر بوش من كل الشاشات العربية لمجرد تفوهه بكلمة آه !
نعم لماذا لا نتعامل مع صناعة المصطلحات بجدية أكثر ، لماذا نخجل من وصف بوش وعصبته بالإرهابي ، بل وكل الإدارات الأمريكية السابقة له ، تشهد بشكل صارخ على إرهاب الولايات المتحدة . لماذا هذا التواضع البغيض ؟ لماذا يبقى وصف إسرائيل بدولة الاحتلال رهناً بالمجازر التي ترتكبها، هل نحن بحاجة إلى مجازر دورية لتذكرنا بهذا المصطلح ؟
2006


الصهيونية تعيد تمثيل النازية

- القمة العربية الطارئة: ربما ينبغي أن نعيد تعريف كلمة " الطارىء" من جديد في قواميسنا العربية، فأن تُعقد قمة عربية من أجل غزة بعد 20 يوما من بدء المذبحة وتُسمى بطارئة فذلك أمر عجب وأن يؤجل اتخاذ القرارات فيها لقمة أخرى في موعد آخر فذلك أعجب!
- المؤتمر الصحفي الذي عقده رئيس الوزراء القطري بمناسبة قمة غزة لم يكن أكثر من جلسة في "الديوانية" ، أوضحت أن الرجل لا يملك لا هو ولا غيره من العرب "البواسل" أي إمكانيات لمجابهة إسرائيل. كما أن قرار إقفال المكتب التجاري الإسرائيلي في قطر لم يكن كما كان موقف شافيز وهو "الطرد" بل أنها أتاحت للحبايب وقتا كافيا جداً لحزم أمتعتهم والرحيل بهدوء وبكل إحترام !
- من لا يملك قرار نفسه لا يملك غير قاموس الدفاع والخوف وإنتظار ما سيفعله الطرف الآخر، والمصطلحات العربية التي تتعامل مع إسرائيل تستخدم بشكل متزايد كلمات مثل" إذا سمحت إسرائيل" " إسرائيل ستفكر.." وقد نجح الزعماء العرب في محو الشخصية العربية الواثقة والقوية ، واستبدالها بأخرى ذات دونية واضحة، يهينها العدو وتبقى تصافحة، يركلها العدو وتبقى تبادله القبلات التي لا يطيقها العدو نفسه، يقتلها العدو وتبقى ذاوية وإلى الذل هاوية. ماأصدق عبارة أحد الباحثين العرب إذ يقول " أما لهذه الهاوية من قاع " ؟
- وربما تخترع الدبلوماسية العربية مصطلحات آخاذة في المستقبل القريب.
- الصهاينة يعيدون تمثيل المحرقة النازية من جديد! فمع تدمير المنازل على ساكنيها واتخاذ البيوت الفلسطينية كأماكن للمراقبة، وتجويع الناس، وتحويل الأجساد البشرية إلى أشلاء متفرقة يصعب التعرف عليها، أخيرا استخدام أسلحة غيرمعروفة وربما محرمة دولية، لإحداث تلك التشوهات والحروق العجيبة في أجساد الضحايا، فإنه لم يبقى من النازية القديمة سور غرف الغاز، وقد فعلت أسرائيل أكثر من "غرف الغاز النازية" فحولت غزة بأكملها إلى غرفة غاز ضخمة تبيد من فيها من بشر وشجر.

مقبرة المدرسة

نُشرت في مجلة نزوى الفصلية
الرحلة إلى المدرسة تبدأ بالرعب ولا تنتهي إلا بها. أسيرُ مشياً إلى مدرستي الابتدائية، يلاحقني كما يُلاحق غيري من الفتيات عصابةُ من الفتيان، الذين تتساقط من أفواههم كلمات هجينة، وألفاظ نابية لم تعرف التهذيب يوماً. تنضح حركًاتهم بسخريةٍ مقيتة وتنبؤ نظراتهم بكفاءة تخطيطهم الإجرامي في زرع الذعر والاضطراب في قلوبنا الصغيرة. أشعر بالخوف يجتاحني وأنا أسير وحدي في هذا الطريق الترابي. ألمحُ مجموعة من المشاغبين، أكاد أنُصت لدقات قلبي المرعوبة ،ولا أعرف كيف أُوازن بين الرغبة في البكاء، والرغبة في الفرار. أسقطُ أرضاً وتتسخ مريلتي المدرسية، شرخٌ صغير في بنطالي الأبيض حيث ركبتي تماماً، أشعر بالألم مع رؤيتي لقطرات الدم عليها. يومها أصررت على والدي أن يرافقني إلى المدرسة ، خجلت أن أذكر السبب الحقيقي وتعللت بثقل الحقيبة المدرسية. أصل إلى المدرسة وأُدرك أني قد تأخرت وأستحق العقاب !
ها قد أغفلت أن أذكر المجوسي الذي يتربع منزله قمة الجبل المجاور لمدرستي الابتدائية . لا أعلم من أين جاء هذا الشخص الممتلىء الجسم، ذو البشرة السمراء والصلعة الواضحة. يشدني الفضول لمعرفة أين يتجه بنظراته الغامضة، أُدقق في نظارته الدائرية الشكل ذات الإطارات السوداء ، أعلم أخيراً انه يتوجه إلى النار المشتعلة أمامه. يجلس على كرسيه كل صباح، أمام باب الدار تماماً، لا يمكن إغفاله أبداً والنار أنيسة صمته. هل كان بالفعل مجوسياً، أم كان من البانيان الذين تمتلىء بهم مطرح ؟ لا أعلم، ما كنت أخشاه هو المرور أمام الدار، فهو يستطيع بقدراته السحرية أن يحول الأطفال الصغار إلى أشكال حيوانات أو أية أشكال غريبة أخرى !
ارتعدت وأنا ألج المدرسة، فهناك ينتظرني المارد الجبار.. وكيلة المدرسة! نلتُ ضرباً مبرحاً على يديّ، عَشرُ ضربات كاملة بعصاً خشبية طويلة، مسحتُ دمعاتي على عجلٍ خشية أن يراني أحد. صعدتُ إلى الطابق الثاني من مبنى المدرسة، شعرتُ بشيء من الرهبة وقد خيم السكون على المكان، فخلف ساحة المدرسة تماماً تقع مقبرةٌ كبيرة يمكن مشاهدتها بأوضح ما يكون عند نهاية الرواق الطويل، تماماً حيث يقع فصلي الدراسي في أقصى مبنى المدرسة!
حاولت كثيراً أن أرى الأموات الذين يخرجون من المقبرة وهم يرتدون الملابس الحمراء ويلوحون لفتيات المدرسة بغية إخافتهن. زميلاتي يؤكدن على حقيقة ذلك ، بل ويسُقنَ من الأدلة ما لا يمكن إغفاله، فالأقمشة الحمراء تنتشربشكل ملفت على طول المقبرة، واستخدام هؤلاء الأموات لدورات مياه المدرسة لا غبار عليه!
الحقيقة أن الشك كان ينتابني بهذا الشأن ، فما حاجة الأموات إلى دورات المياه ؟ لكنّ زميلاتي يصّرن على رؤيتهن لعدد من الرؤوس، والجثث المقطعة، إلى جانب الدماء المنتشرة على أرضية دورة المياه. كان شكي ينقلب إلى تصديق كامل حين تنبعث الروائح الكريهة من دورات المياه، لمجرد المرور بقربها. بدأتُ أدرك أن الأموات يقتلون الفتيات المسكينات بطرق شنيعة.
رأتني مربية الفصل ، طوقتني بذراعها وهي تسألني بحنان: "هل ضربتك الوكيلة ؟ أريني يديك.. لا تتأخري مجدداً يا ابنتي . هل ترغبين أن أخبر والدتك بما فعلته الوكيلة" ؟ هززتُ رأسي بالنفي ، فقد كنت أكتم كل مخاوفي ومشاكلي عن والدتي ، وما صارحتها يوماً بما يحدث معي.
بدأت الحصة الثانية ، تهامست الفتيات حول الواجب الذي تم تكليفنا به، دخلت مُدّرسة الرياضيات ذات القامة القصيرة والجسم الممتلىء والمشية العرجاء. لها شفتان لم تعرفا يوماً معنى الابتسامة، ولها صوتٌ يرعد ويزبد بالسباب..بدأت تُراجع ( الكراريس)، وبدأنا معها نحبس أنفاسنا، فإحدانا اليوم ستكون قرباناً لهذا التنين الذي لا يهدأ إلا برؤية ضحيةٍ بشرية. إختار الوحش ضحيته، كشّر عن أنيابه ، وسرعان ما بدأت الضحية بالارتجاف ثم البكاء. تسارعت أنفاسنا ونحن نتابع مشاهد الرعب حيةً أمام أعيننا. لا لا لم يكن هذا أبداً من نسج مخيلاتنا الصغيرة، فها هي مُدّرسة الرياضيات تمسك بالطالبة المسكينة من شعرها وتدفعها إلى السبورة، والفتاة لا حول لها ولا قوة تتمايل إلى اليمين وإلى الشمال، وقد فقدت كل قدرة على المقاومة واستسلمت لمصيرها! كدتُ أتوسل إلى هذا الوحش أن يكفّ، لكني عوضا عن ذلك بكيت بصمت، لضعفي وخوفي على زميلتنا. يومها أٌصبت بإعاقة فكرية حول لغة الأرقام ، بدأت درجاتي بالتراجع، فقدتُ كل أرصدتي وأسهمي في هذه المادة، وفشلت في أن أعقد معها صلح سلام حتى هذه اللحظة!
لم تبدأ الحصة المدرسية بعد (الفسحة) كالمعتاد، فلدينا زوار!
ابتلعتُ ريقي ، وشعرت حينها بالرغبة في العودة إلى البيت والارتماء في أحضان والدتي ، أكره هؤلاء الزوار ولا أطيق ما يفعلونه بنا. فهذا وقت التفتيش الدوري على مقتنيات الغابات الأمازونية في رؤوسنا، تمر المفتشة الصحية لتفحص مدى نظافة شعرنا!
يا إلهي ما أقسى أن أقول أنها كانت تبحث عن القمل في رؤوسنا، ويبدو أنها كانت تبحث في المكان الصحيح !
شعرت بالانكسار وأنا أغادر الفصل مع آخريات إلى باحة المدرسة، الحزن كان يقتلني وأنا أرى نظرات الاشمئزاز في عيون صديقاتي ، ترى هل ستدعُني المفتشة وشأني إذا أخبرتها أن أمي تغسل شعري كل يوم وأن من نقل إلي القمل هي زميلتي الجالسة إلى جواري؟
"هيا اخلعوا الإيشاربات ، هيا سنضع الدواء في رؤوسكم" . هكذا صاحت المفتشة الصحية، كدت أسمعها تقول:
" رؤوسكم القذرة" ، وكدت أسبها وأشتمها وأقول لها بأن بنات هذه الحارة هن من يجلبن القمل إلينا، لكني شغلت بفك ظفائري الطويلة! ومن بعيد لمحت حارس المدرسة يراقبنا، فشعرت بالخجل وكدت أذوي من شدة الحرج، اجتاحتني كآبة مقيتة، صممت على الهرب إلى الصف لولا وصول المفتشة إليّ . سحبت شعري بقوة فتساقطت الأشرطة الحمراء على الأرض الترابية، أغمضتُ عيني وأنا أتخيل نفسي ذبابة عملاقة ، تُرش بالمبيد الحشري القاتل!
رائحة الدواء تزكم ذكرياتي حتى اليوم . بقيت في الساحة وحدي .. خاطبتني المدرسة: " لماذا لم تذهبي حتى الآن" ؟
كنت كالمبهوتة بما حصل ، تبعثرت ظفائري المجدولة ، وشعري الناعم أضحى منكوشاً ، وتلك الرائحة الكريهة تبعث فيني الرغبة في التقيؤ. تبلل إيشاربي المدرسي ببقايا الدواء، واتسخت أشرطة شعري الحمراء !
أجبتها بصوتٍ لا يكاد يُسمع : " أبله لا أعرف كيف أجدّل ظفائري من جديد ! كيف ألبس الإيشارب وشعري غير مرتب"؟
لم تبقى المدرسة لتسمع بقايا الهمسات ، رحلت ! وفي اليوم التالي تبادلتُ مكان جلوسي في الصف مع زميلةٍ أخرى!

2004

الحصول على المعلومات ليس في تركيبتنا الجينية !

(1) يذكر الاستاذ الأمريكي وليام سايفر واصفاً رحلته إلى جبل شمس ومروره بإحدى القرى الصغيرة بأنه " لا توجد أي إشارة توضح أن هذا الطريق - في إشارة إلى قرية الحيل- يصل إلى أروع واد ضيق في منطقة الشرق الأوسط " ثم يضيف " وليس بالغريب أن يكون الطريق غير مبين بعلامة" ! ويستدل أستاذ الأدب الامريكي بمقولة لسفير الولايات المتحدة الأسبق لدى البحرين واصفاً عرب الخليج " توقع الحاجة إلى معلومات او الحصول عليها ليس في تركيبة حمضهم النووي" !.
(2) ورغم أن المعلومات المتعلقة بأسماء المدن والقرى وكيفية الوصول إليها بيسر ليست المعلومات الوحيدة التي تشكو تركيبتنا الجينية من نقصها، إلا أن الحديث هنا سيتركز على هذه الفكرة.
(3) تبدو ملاحظ سايفر صحيحةً إلى حدٍ كبير حتى اليوم. فرغم مضي فترات ليست بالقصيرة منذ أن تم التخلص من الدوارات في الشوارع واستبدالها بإشارات المرور، إلا أنك لا تجد ولو لافتة واحدة تشير إلى المناطق التي تتفرع إليها التقاطعات الجديدة. ومعظمنا يدرك هذه الأماكن ويتمكن من الوصول إليها كونها مسارات ألفنا على السير فيها منذ فترات طويلة.
(4) ولكن ماذا عن القادمين والمقيمين الجدد في السلطنة، ألا يحق لهم التجول في الشوارع والوصول إلى المناطق المختلفة بيسر ودون تكبد عناء السؤال والبحث وتضييع الوقت؟ وماذا عن السائح الذي يزور السلطنة؟ حتى لو افترضنا أن السائح يتنقل عبر سيارات الأجرة أو حافلات النقل السياحية، ألا يكون ممتعاً ومفيداً لهذا السائح أن يتعرف على أسماء المدن والمناطق المختلفة التي يتجول فيها وحولها؟
(5) ويبقى السؤال إلى أي مدى ستكون الخرائط السياحية المتوفرة في بعض المكتبات في مسقط مفيدة للسائق الجديد أو السائح الذي يحب التنقل في سيارة خاصة، فحتى لو كانت أسماء المناطق والقرى واضحة على هذه الخرائط، فإنها غير موجودة على الواقع ولا أثر لها بأية علامة على الشارع !
وردت هذه المعلومات( الفقرة الأولى) في مقالة مترجمة لـ (خالصة الأغبرية) عن مذكرات أستاذ الأدب الأمريكي السابق في جامعة السلطان قابوس وليام سايفر. عنوان المقالة (جبل شمس في عيون أمريكي) ملحق شرفات، جريدة عمان 14 نوفمبر2007

الاثنين، 19 يناير 2009

جريمة المحرقة لن تمر

فهمي هويدي
صحيفة الشرق
تاريخ النشر: 13 يَنَايِر 2009

إحدى الخلاصات التي نخرج بها من متابعة المشهد في غزة أنه لا شيء تغير في إسرائيل، لكن العرب هم الذين تغيروا.
(1) "قتلت ما بين 80 إلى مائة فلسطيني، من النساء والأطفال. الأطفال كانوا يقتلون بتحطيم رؤوسهم بالعصي. لم يكن هناك منزل واحد بلا جثث. أجبر الرجال والنساء على البقاء في بيوتهم بلا طعام أو ماء. ثم جاء الجنود لكي يفجروا المنازل بالديناميت. أمر قائدنا أحد الجنود بإحضار امرأتين إلى المنزل الذي كان على وشك تفجيره" .. جندي آخر افتخر بأنه اغتصب امرأة عربية قبل إطلاق النار عليها وقتلها. أمر الجنود امرأة عربية أخرى معها جنينها بتنظيف المكان لمدة يومين، وبعد ذلك أطلقوا النار عليها وعلى طفلها. القادة المتعلمون من ذوي الأخلاق الحسنة، الذين كانوا يعدون "أفضل الرجال" تحولوا إلى قتلة في معارك الطرد والإبادة التي انطلقت من الاقتناع بأنه كلما كان هناك عرب أقل، كان ذلك أفضل لإسرائيل. "كان علينا أن نهاجم اللاجئين الفلسطينيين، انقسمنا إلى ثلاث مجموعات، كل واحدة ضمت أربعة أشخاص. شاهدت مع زميل لي عربياً يقف عند منحدر التل. قال لي زميلي جبيلـي: هار، جهز سكينك. زحفنا نحو الرجل الذي كان يردد لحناً عربياً، فسارع جبيلى إلى الإمساك به، وأنا أغمدت السكين في عمق ظهره. رأيت الدماء تتدفق على قميصه القطني المخطط. ودون أن أضيع أية ثانية، تصرفت تصرفاً غريزياً وقمت بطعنه مرة أخرى بالسكين، تأوه الرجل وتمايل ثم سقط مضرجا في دمائه. هذان النّصان لا يصفان شيئاً مما يحدث في غزة هذه الأيام، ولكن الأول منهما جزء من شهادة جندي شارك في احتلال قرية الدوليمه الفلسطينية عام 1948، نشرتها صحيفة "دافار" الإسرائيلية في 9/6/1979. أما الثاني فهو مقتبس من يوميات جندي اسمه مائير هارتزيون، تحدث فيها عن تجربته مع الجيش الإسرائيلي في بداية الخمسينيات، التي نشرت في تل أبيب عام 1969. وكانت صحفية "ها آرتس" قد سألته حينذاك عما إذا كان يشعر بوخز الضمير من جراء ما فعل، فنفى ذلك، وقال إن طعن العدو بالسكين "شيء رائع" يمنحك إحساسا بأنك رجل حقاً. ( القصتان وردتا في ثنايا كتاب صدر مؤخراً عن دار الشروق الدولية حول "إرهاب إسرائيل المقدس").
(2) هذا الذي حدث قبل ستين عاماً يتكرر الآن في غزة. لكن السلوك الإسرائيلي اختلف في الدرجة، في حين أن الموقف العربي اختلف في النوع. فإسرائيل ظلت على موقفها في الفتك بالفلسطينيين واستباحة دمائهم. في الأربعينيات أرادت تهجيرهم والآن تريد تركيعهم. ووقتذاك استخدمت السلاح والآن أضافت إليه الحصار. وما فعله النازيون معهم حين وضعوا اليهود في معسكرات الاعتقال ثم ساقتهم إلى غرف الغاز، فإن الإسرائيليين حولوا غزة بالحصار إلى معسكر للاعتقال، وأقامت لهم محرقة بأسلوب آخر، حيث عمدت إلى قصفهم ودك بيوتهم فوق رؤوسهم من الجو والبر والبحر. بل لم يتورعوا عن ضرب مقرات المنظمات الدولية (الصليب الأحمر ووكالة غوث اللاجئين) وقصف سيارات الإسعاف وتصفية المسعفين. الأمر الذي يعني أنهم ضاعفوا من وحشيتهم واستهتارهم وتنكيلهم بالفلسطينيين. أما اختلاف الموقف العربي في النوع، فيظهر جليا حين نلاحظ أنه في الأربعينيات كان هناك توافق بين الحكومات والشعوب العربية على ضرورة مواجهة العدوان الصهيوني الذي أسفر عن وجهه في منتصف الثلاثينيات، الأمر الذي وفر مناخاً مواتياً لفتح الباب واسعاً لتطوع المجاهدين من أنحاء العالم العربي والإسلامي، ولإشراف الجامعة العربية على جمع المال والسلاح لمقاومة تقدم العصابات الصهيونية. وهو ما انتهى بإعلان الحكومات العربية في عام 1948 - من خلال اللجنة السياسية بالجامعة – زحف الجيوش المصرية والسعودية واللبنانية والعراقية والأردنية لمساندة شعب فلسطين "لأن أمن فلسطين وديعة مقدسة في عنق الدول العربية"، كما ذكر البيان الذي صدر بهذا الخصوص. لست هنا بصدد تقييم النتائج التي يعرفها الجميع، لأن ما يعنيني في اللحظة الراهنة هو المدى الذي بلغه اختلاف الموقف العربي على الصعيد النوعي. فلا الحكومات العربية اتفقت مع بعضها البعض على مواجهة العدوان، بل عجزت حتى عن أن تعقد قمة لاتخاذ موقف موحد. ولا توافقت تلك الحكومات مع شعوبها، التي مازالت أغلبيتها الساحقة على الأقل ثابتة على موقفها الذي عبرت عنه في عام 1948. الأدهى من ذلك والأمر، أن بعض الحكومات العربية بدت في التعامل مع العدوان أكثر توافقاً وتناغماً مع الدول الغربية، منها مع شقيقاتها العربيات. وكان ذلك أوضح ما يكون في أصداء قرار مجلس الأمن الأخير بخصوص وقف العدوان على غزة. ناهيك عن اللغط المثار حول الموقف من العدوان ذاته ومن حصار القطاع بوجه عام. ومادمنا بصدد المقارنة، فإننا لا نستطيع أن نتجاهل في رصد الموقف الغربي، الذي أفزعته الممارسات النازية الألمانية بحق اليهود في أربعينيات القرن الماضي، هو ذاته الذي يقف الآن متفرجاً – بعضه يشجع ويبارك – المحرقة النازية الإسرائيلية بحق الفلسطينيين.
(3) رغم أن أي تقييم لنتائج المحرقة لا يزال مبكراً، إلا أن ثمة أمورا برزت في الأفق الآن، بحيث يمكن التعامل معها كمؤشرات مقطوع بها، أو مرجحة عند الحد الأدنى. من ذلك مثلاً أن ما جرى في غزة لن يمر بسلام، لا عربياً ولا فلسطينياً. وفي هذا الصدد ينبغي أن ننتبه باستمرار إلى أن الشارع العربي يعيش الحدث في غزة يوماً بيوم بل ساعة بساعة. وأذكر في هذا الصدد أنه إذا كانت إسرائيل تمارس الآن بدرجة أعلى ذات الجرائم التي ارتكبتها في فلسطين، فإن تفصيلات تلك الجرائم لم يتعرف عليها العرب والمسلمون إلا بعد سنوات من وقوعها، وأن الإعلام كان ضعيفاً في أربعينيات القرن الماضي. لكن الأمر اختلف الآن تماماً، لأن الناس أصبحوا يتابعون ما يجري في غزة ساعة بساعة، وفي أحيان كثيرة فإن مشاهد المحرقة تنقل إليهم مباشرة عبر بعض الفضائيات، ولا ينبغي أن يستهان بهذه التعبئة المستمرة التي شحنت الشارع العربي بمختلف مشاعر السخط والغضب. ليس على إسرائيل وما تفعله، ولكن على العجز الذي ظهر في مواقف الأنظمة العربية ذاتها. وهذا وجه الخطر في الموضوع. ذلك أن مواقف الأنظمة العربية، التي وضعت أغلبها موضع الاتهام إما بالتقاعس أو بما هو أبعد من ذلك وأسوأ، أحدثت أزمة ثقة عميقة بين الجماهير وبين تلك الأنظمة. صحيح أن ثمة فجوة تقليدية بين الأنظمة والشعوب في العالم العربي بسبب احتكار السلطة وشيوع الفساد وغياب الديمقراطية، لكن الاتهامات التي أصبحت توجه إلى تلك الأنظمة في ظروف الحرب الراهنة، سواء بالتقاعس أو بالموالاة للطرف الآخر، لم تعمق من تلك الفجوة فحسب، وإنما أفقدتها رصيد الثقة والاحترام. وفي غياب الشفافية وإزاء استمرار التشنج الإعلامي الراهن، لم يتح للناس أن يتبينوا الحقائق. الأمر الذي وسع من نطاق الشبهات وأبقى على بعض الدول في قفص الاتهام. لا ينكر في هذا الصدد أن المقدمات التي تعرف عليها الناس كانت عنصراً مساعداً على تثبيت الاتهامات وإثارة الشكوك. ذلك أن اشتراك بعض الدول العربية في حصار الفلسطينيين بالقطاع، ومنعها إيصال المعونات والمواد الإغاثية إليهم، والتلكؤ حتى في السماح للأطباء المتطوعين بدخول القطاع للمشاركة في علاج المصابين، إضافة إلى التصريحات السياسية البائسة التي عبرت عن التحامل على الفلسطينيين، وتبرير قيام الإسرائيليين بالمذبحة. هذه العوامل وغيرها أسهمت في تعزيز الشكوك والشبهات. يكفي أنها أثارت عند كثيرين تساؤلات حائرة عن حقيقة مواقف تلك الأنظمة، وهل هي تعبر عن شعوبها حقاً، أم أنها تقف في الاتجاه المعاكس وتعبر عن مصالح ومواقف الأطراف الأخرى. لا أظن أننا عشنا زمناً تعمقت فيه أزمة الثقة في بعض الأنظمة العربية، ولا أثيرت حولها الشكوك والشبهات، كهذا الزمن الذي نعيشه الآن. وذلك وجه الخطورة في الموضوع. ذلك أن شعوبنا التي احتملت في السابق ممارسات كثيرة من الأنظمة المختلفة، يصعب عليها ويهينها ويجرح كرامتها، أن تحتمل طويلاً أوضاعاً من هذا القبيل الذي استجد. لا أعرف بالضبط ما الذي يمكن أن يحدث، لكنى فقط أقول إن الممارسات المخزية الراهنة، التي تشعر شعوبنا بالذل والعار، أصبحت تفوق طاقة الصبر عند الناس، خصوصاً أولئك الذين لديهم بالأساس ما يكفيهم من المرارات والأوجاع. وليت الأمر وقف عند حدود المهانة وجرح الكبرياء، لأن المشهد لم يخل من "فضيحة" أيضاً، بعد أن وجدنا فنزويلا تطرد سفير إسرائيل لديها، وموريتانيا تستدعي سفيرها في تل أبيب، وتركيا تعلق اتصالاتها مع إسرائيل، ومهاتير محمد يدعو من ماليزيا إلى مقاطعة البضائع الأمريكية، في حين يسود الخرس عواصمنا، ويخيم عليها "صمت الحملان"!
(4) هل يمكن بعد الذي جرى أن يتحدث أحد عن السلام مع إسرائيل؟ - أرجو ألا يسارع أحد إلى المزايدة علي قائلاً إنني أدعو إلى الحرب، التي لم تستبعدها إسرائيل وتتحسب لها باستمرار، لأن ما أدعو إليه حقاً هو سلام مشرف لا يشترط علينا الركوع أو الانبطاح مقدماً. ذلك أن الجنون الذي مارسته إسرائيل في ممارساتها الوحشية في غزة، لم يهدم فقط بيوت القطاع لكنه أيضاً هدم كل ما حاولت إسرائيل أن تبنيه من أوهام السلام طوال الثلاثين عاماً الأخيرة. وقد شاءت المقادير أن تقدم إسرائيل على محرقة غزة في العام الثلاثين لتوقيع معاهدة السلام مع مصر (عام 1979)، لتطوي صفحتها وتجهز على ما بقى لها من آثار، خصوصاً بعدما أصبح السؤال المركزي في العالم العربي: هو أليس من العار رغم الذي جرى، أن تحتفظ أي دولة عربية بعلاقات من أي نوع مع إسرائيل؟ - بسبب من ذلك، فلعلي لا أبالغ إذا قلت إن نكسة شديدة أصابت أوهام السلام التي حاولت أن تروج لها إسرائيل. أعادتها خطوات بعيدة إلى الوراء، حتى أزعم أن إسرائيل قد تحتاج إلى عشر سنوات أخرى لكي تعود إلى فتح ذات الملف مرة أخرى. الملاحظة الأخيرة في هذا الصدد أن إسرائيل حين أرادت أن تحرق غزة فإنها حرقت أصدقاءها معها، وفي المقدمة منهم أبو مازن وجماعته الذين كان غاية جهدهم منذ وقعت الواقعة، أنهم جلسوا إلى جوار الهواتف يناشدون الآخرين ويستعطفونه، حتى إن أبو مازن لم يجرؤ على الاحتجاج والإعلان عن قطع مفاوضاته مع إسرائيل. الأهم من ذلك أن الجريمة أعادت اللحمة إلى الصف الوطني الفلسطيني الذي عانى من التصدعات والانقسام. وهي لحمة يمكن أن تنتقل بالوضع الفلسطيني إلى طور مغاير تماماً إذا ما استمرت مقاومة غزة في صمودها الأسطوري. لأن ذلك الصمود إذا ما تحقق فإنه لن يختلف في أثره عن عصا موسى، التي ذكر القرآن الكريم أنه حين ألقاها "إذا هي تلقف ما يأفكون".

ما بين "التوربيني" وطلبة الأزهر

فهمي هويدي
نشر في صحيفة الشرق
تاريخ النشر: 19 ديسمبر 2006

بماذا تفسر أن تظل عصابة اغتصاب الأطفال وقتلهم ترتكب جرائمها البشعة في انحاء مصر طوال سبع سنوات دون أن يشعر بها أحد، في حين أن بعض طلاب جامعة الأزهر لما قاموا باستعراض احتجاجي لمدة نصف ساعة أمام مكتب المدير، فإن استنفاراً إعلاميا فورياً حدث، روع الخلق في بر مصر، اعقبته ضربة أمنية قوية، اسفرت عن القبض على 140شخصاً.
(1) من تابع الإعلام البريطاني خلال الأسبوعين الماضيين لابد أنه لاحظ أن الصحف ومحطات التليفزيون والإذاعة الخاصة والعامة شغلت بقضية سفاح مجهول قتل خمس مومسات في منطقة واحدة. وهو الحدث الذي هز بريطانيا واستنفر اجهزة الشرطة وخبراء البحث الجنائي واساتذة علم النفس والاجتماع، و قد ذكرت صحيفة "التايمز" انه تم تجنيد الفي ضابط وشرطي لملاحقة الفاعل، كما ان فريقاً من الخبراء والعلماء عكفوا على دراسة شخصيته من خلال الجرائم التي ارتكبها ونوعية النماذج التي اختارها والأهداف التي تحراها. ومن هؤلاء عالم النفس دايفيد كارتر الذي قال أن الرجل شديد الذكاء وبالغ الحذر، ورجح أن يكون مقتنعاً بأنه صاحب رسالة "تطهيرية"، وأن تكون دوافعه إلى ارتكاب جرائمه اخلاقية. إذا قارنت هذا الاستنفار الأمني والمجتمعي الذي شهدته بريطانياً بالاسترخاء المشهود الذي تم التعامل به في مصر مع عصابة اغتصاب الأطفال وقتلهم، فسوف يجسد لك ذلك الفرق بين الجد والهزل. ذلك أنه يحق لنا أن نقول أن قتل 30طفلاً وطفلة في ست محافظات مصرية، على أيدي عصابة واحدة خلال سبع سنوات متتالية، إذا لم يكن خَبَره قد وصل إلى علم أجهزة الأمن، فتلك مصيبة، لأنه يعني ان تلك الأجهزة لا ترى ولا تسمع بما يجري على أرض الواقع. أما إذا كانت قد علمت وغضت الطرف وسكتت فالمصيبة اعظم، لأنها في هذه الحالة تكون قد اهملت إهمالا جسيماً اقرب إلى التستر على الجرائم، والاحتمال الأول عندي أرجح - لماذا؟ الإجابة المختصرة لأن امر العصابة حين تم اكتشافه بالصدفة البحتة، فإن أجهزة الأمن لم تقصر في متابعة القضية وكشف ابعادها، فقد علمنا من التقارير الصحفية أن احد افراد العصابة القي القبض عليه في مدينة طنطا بتهمة "التسول". وحين تم اقتياده إلى الضابط المختص، فإنه طلب منه أن يحميه من زعيم العصابة الذي كان يترصده لقتله بسبب مشكلة بينهما. وإذ سأله الضابط عن علاقته بالزعيم وعن نشاط العصابة، فإن الفتى افاض في المسألة واعترف ببعض الجرائم التي ارتكبت. وارشد عن الأماكن التي القيت أو دفنت فيها جثث الضحايا. وكانت تلك هي الخيوط التي قادت إلى كشف المأساة وإلي اعتقال عناصرها، واحداً تلو الأخر.
(2) التراخي الملحوظ في الكشف عن جرائم العصابة، كان له نقيضه في حالة طلاب جامعة الأزهر. لأن الأعين التي نامت طوال السنوات السبع في الحالة الأولى، كانت مفتوحة عن آخرها وهي تتابع ما يجري داخل حرم الجامعة، خصوصاً الاعتصام الذي قام به بعض أولئك الطلاب أمام مكتب مديرها. وهو الاعتصام الذي دعوا إليه تعبيراً عن الاحتجاج على ما تعرضوا له من مظالم، بدأت بمنعهم من الترشيح لانتخابات اتحاد الطلبة وانتهت بفصل ثمانية منهم. غير أن الأمور سارت في اتجاه مغاير، أو قل أنها قرئت على نحو آخر، بعدما نشرت صور لهم، بثتها إحدى المحطات التليفزيونية، وهم يمارسون لعبة "الكاراتيه" في حين ارتدوا ثياباً سوداء وغطوا وجوههم بأقعنة مماثلة، ووصفوا في خطاب الإثارة الإعلامي بأنهم "ميليشيا"! قراءة الأجهزة الأمنية للحدث عبر عنها بيان الداخلية الذي صدر يوم الخميس 14/12، واعتبر مسلك الطلاب "منعطفاً خطيراً" استهدف فرض اوضاع غير شرعية داخل الجامعة، عن طريق الحث على التظاهر والتحريض على الخروج للطريق العام، في محاولة للاخلال الجسيم بالنظام العام وانتهاك القانون .. الخ. الطلاب عبروا عن رأيهم في بيان قالوا فيه أنهم ارادوا لفت الأنظار إلى قضيتهم، بعد مسلسل المظالم التي تعرضوا لها من قبل الأجهزة الأمنية وإدارة الجامعة. "وأن ما دفعنا إلى أجراء العرض التمثيلي ناتج عن شعورنا بأن أحداً لا يسمع صوتنا، ولا يتحرك من اجل المطالبة بحريتنا داخل الجامعة .. ولكننا اخطأنا في تقدير حركتنا، ولهذا وجب علينا الاعتذار".. لجامعتنا و اساتذتنا و زملائنا عن العمل الذي قمنا به." حين سألت من اعرف من اساتذة الجامعة عن حقيقة ما جرى، قالوا أن الطلاب المعتصمين لجأوا إلى شغل الوقت من خلال تقديم بعض العروض، فكان منها ما هو خطابي وما هو تمثيلي أو رياضي، والصور التي نشرت لفقرة قدمها طلاب التربية الرياضية بالجامعة. رغم أن ما سمعته صور ما جرى بحسبانه فقرة عادية لم يكن لها علاقة بأي شكل من اشكال العنف أو ادواته، إلا أن أحداً لا ينكر أن أداء الفقرة لم يكن عادياً وأن الاستعراض أياً كان تسميته جاء ساذجاً وغبياً، فتح الباب واسعاً للقلق والمخاوف، خصوصاً أن الطلاب ظهروا فيه بأردية واقنعة سوداء، قَلّدوا بها شباب الانتفاضة في الأراضي المحتلة. لقد تحول المشهد إلى قضية يفترض أن يحسم القضاء أمرها، بما يحدد صواب أي من الرؤيتين أو خطئها. لكن المراقب لا يسعه في هذا الصدد إلا أن يسجل أن حملة التصعيد والإثارة التي واكبت المشهد، بدا فيها الخطاب الإعلامي منحازاً إلى التحريض والإثارة، ومتبنياً للقراءة الأمنية دون غيرها.
(3) هل هناك علاقة بين قضية عصابة "التوربينى" -هكذا سمي زعيمها- وبين قضية طلاب جامعة الأزهر؟ ردي على السؤال أن ثمة علاقة غير مباشرة، من أكثر من زاوية. فمن ناحية نجد في عصابة قتل الأطفال بعد اغتصابهم بعضاً من سمات "مصر الأخرى"، التي لا تذكر في وسائل الإعلام إلا في صفحات الحوادث، ولا يشار إليها إلا مرتبطة بالكوارث والجرائم، وهي العالم الآخر الذي يقبع في المساحة المظلمة من صورة المجتمع، التي تخفي واقعاً عشوائياً تغيب عنه السلطة، وتكاد تحكمه شريعة الغاب. ولأن أهله هم ضحايا الفقر والبطالة واهمال الدولة واستعلاء النخبة، فلا غرابة أن يصبح موطنا للجريمة والرذيلة ومختلف تجليات التحلل الاجتماعي. ولك أن تذهب إلى ابعد وتقول أن ما اقدمت عليه العصابة إذا كان قد صدم المجتمع المصري واثار اشمئزاز وقرف كل شرائحه، إلا أنه ليس غريباً ولا مفاجئاً تماماً. ذلك أن تقارير منظمات حقوق الإنسان، التي تسجل الانتهاكات التي يتعرض لها البشر، إذا اوقعتهم حظوظهم البائسة في ايدي من لا يرحم في المخافر والسجون والمعتقلات، لا تخلو من افادات من هذا القبيل، تتراوح بين هتك العرض والقتل البطىء (هل تذكر شريط الصور الذي سجل هتك عرض احد المواطنين في مخفر الشرطة بحي امبابة؟) الأمر الذي يعني عند التحليل الأخير أن الاختلاف بين هذه الممارسات وتلك، هو في الدرجة فقط وليس في النوع. وإذا كانت العصابة رمزاً لحالة اجتماعية بائسة طفحت على جسم مصر الأخرى. فإن ما اقدم عليه اولئك النفر من طلاب جامعة الأزهر يرمز إلى حالة من الاحتقان السياسي الذي ينبغي أن تفهم ابعاده ويدرك سياقه. صحيح أن هذا السلوك شاذ وغريب على جامعاتنا. لكن من الصحيح أيضاً أن الباحثين المنصفين لا يختلفون حول الظروف التي استدعته وافرزته. حيث لا مفر من الإقرار بأن هذا السلوك الشاذ نتاج ظروف شاذة مماثلة. أن شئت فقل أن الإسراف في التعبير عن الاحتجاج والغضب، هو رد فعل مباشر للإسراف في قمع الطلاب والتدخل الأمني في شؤون الجامعات. وهو ما دفع كاتباً نزيهاً مثل الدكتور عمرو الشوبكي إلى القول بأنه " إذا حوسب المسؤول عن ادخال البلطجية إلى جامعة عين شمس (لقمع الطلاب الذين حرموا من الترشيح فلجأوا إلى اقامة اتحاد حر مواز)، فلابد أن نحاسب الميليشيات الطلابية السوداء على ما فعلته في جامعة الأزهر، برعونة لا تعي خطورتها" (المصري اليوم - 14/12).
(4) في "احلام فترة النقاهة" - الحلم رقم 203 - التي تطبعها الآن "دار الشروق" مكتملة، كتب الاستاذ نجيب محفوظ يقول: رأيتني أقرأ كتاباً وإذا بسكارى رأس السنة يرمون قواريرهم الفارغة، فتطايرت شظايا، وينذرونني بالويل، فجريت إلى اقرب قسم شرطة. ولكني وجدت الشرطة منهمكة في حفظ الأمن العام، فجريت إلى فتوة الحي القديم، وقبل أن انتهي من شكواي هب هو ورجاله وانقضوا على الخمارة التي يشرب فيها المجرمون، وانهالوا عليهم بالعصي حتى استغاثوا بي! المعنى الذي اراد نجيب محفوظ توصيله أن "الأمن العام" في مفهوم رجال الشرطة ليس هو أمن الناس أو المجتمع، ولكنه امن النظام، وعلى الناس أن يدركوا هذه "الحقيقة" وأن يتصرفوا على هذا الأساس. وملاحظته هذه صائبة و تفسر لنا المفارقة التي نحن بصددها، حيث لم تنتبه الشرطة إلى عمليات القتل التي مارستها عصابة التوربيني طوال السنوات السبع التي خلت، لأنها كانت منشغلة "بالأمن العام" المتمثل في متابعة النشطاء السياسيين، الأمر الذي يجسد تركيز الاهتمام على الأمن السياسي دون الأمن الاجتماعي. هذا التفسير رددته بعض التحليلات التي نشرتها الصحف المستقلة، حتى اصبح امراً متعارفاً عليه ومسلماً به. ناهيك عن ان شواهد الواقع تؤيده. والانطباع السائد في المجتمع المصري الآن أن اغلب مخافر الشرطة اصبحت تستقبل بفتور وعدم اكتراث أي بلاغ تتلقاه حول قضية جنائية أو مدنية، لكنها تستنفر وتهرول، إذا كانت القضية سياسية أو كان البلاغ يشكك في وجود رائحة للإرهاب في أي مكان. ليس ذلك فحسب، وإنما بات مستقراً في أوساط الشرطة أن كفاءة الضابط أو القيادي، ومن ثم ارتقاؤه واستمراره، ذلك كله يقاس بمدى الانجاز الذي يحققه في ملاحقة واجهاض العمليات الإرهابية، فضلاً عن كفاءته في "التعامل" مع الإرهابيين بالأسلوب "المناسب". وهو ما يدفع رجال الأمن إلى التفاني في اتجاه والتراخي في الاتجاه الأخر، وفي ظل ذلك الوضع فلا يستغرب إلا ترصد ممارسات عصابة "التوربيني"، بينما تسلط الأضواء القوية على ممارسات طلاب الجامعة. إذ بحكم ذلك المنطق، فإنه من حسن حظ الرجل وعصابته أنهم ليسوا في عداد "الإرهابيين"، حيث لم يفعلوا اكثر من أنهم اغتصبوا وقتلوا 30 طفلاً فقط! اعرف صديقاً من انصار نظرية المؤامرة، لاحظ المفارقة في موقف اجهزة الأمن من القضيتين، فحاول اقناعي بأن المبالغة في تضخيم ما جرى في جامعة الأزهر ليست سوى فرقعة اريد بها ضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد. إذ من شأن الفرقعة أن تصرف الانتباه عن الفشل الأمني في ضبط عصابة التوربيني في الوقت المناسب، كما أن لها أثرها الأكيد في ترويع الناس وتخويفهم، الأمر الذي يدفعهم إلى التشبث بما هو قائم. ثم أنها تشكل غطاء مناسباً لتوجيه ضربة اجهاضية واستباقية تؤدب المشاغبين وتردعهم بعد تزايد الصداع الذي يسببونه للنظام في الآونة الأخيرة. إلى هذا المدى ذهب البعض في التأويل والاستنتاج.

الأحد، 18 يناير 2009

علينا أن نعدل الصورة المشوهة التي نحملها عن حماس

بقلم: ويليام سيجهارت
تايمز أون لاين 31/12/2008
ترجمة : قسم الترجمة في مركز الشرق العربي
الأسبوع الماضي كنت في غزة. و عندما كنت أسير في الشارع التقيت بمجموعة تتكون من 20 رجل شرطة كانوا يخضعون لدورة تدريبية في إدارة الصراع. لقد كانوا تواقين لمعرفة ما إذا كان الأجانب يشعرون أنهم أكثر أمانا منذ أن استولت حركة حماس على الحكومة؟ في الواقع لقد شعرنا بذلك فعلا, و هذا ما أخبرناهم به. ليس هناك أي شك أن الشهور ال18 الماضية شهدت هدوء نسبيا في شوارع غزة؛ ليس هناك مسلحون في الشوارع و لا مزيد من عمليات الخطف. و قد تبسم رجال الشرطة أولئك باعتزاز كبير و لوحوا لنا بأيديهم.
بعد أقل من أسبوع على ذلك اللقاء جميع أولئك الرجال ماتوا, و قد قتلتهم الصواريخ الإسرائيلية في احتفال التخريج. ترى هل كانوا "أعضاء خطرين في حركة حماس"؟ لا, لقد كانوا رجال شرطة غير مسلحين, لقد تم قتل رجال الخدمة العامة هؤلاء ليس في "معسكر تدريب" بل في نفس مركز الشرطة الذي كان يستعمل من قبل البريطانيين و الإسرائيليين و حركة فتح خلال فترات حكمهم هناك في منتصف مدينة غزة.
إن هذا التمييز أمر مهم لأنه و بينما تعرض هذه الصور المريعة في غزة و تقوم اسرائيل باستعراض نفسها على شاشاتنا فإن حرب الكلمات تجري و تحجب عنا فهم الحقائق الجارية على الأرض.
من أو ما هي حماس, تلك المنظمة التي يريد أيهود باراك وزير الدفاع الإسرائيلي أن يزيلها كما لو كانت فيروسا؟ لماذا نجحت في الانتخابات الفلسطينية و لماذا سمحت بانطلاق الصواريخ نحو اسرائيل؟ إن قصة حماس خلال السنوات ال3 الماضية تكشف كيف أن سوء فهم الحكومات الاسرائيلية و الأمريكية و البريطانية هو الذي قاد الحركة الى هذه المواقف العنيفة التي نشهدها الآن.
لقد بدأت القصة منذ ما يقرب من 3 سنوات عندما نجحت حركة حماس بشكل غير متوقع في أول انتخابات حرة و نزيهة في العالم العربي, و قد نجحت الحركة وفقا للبرنامج الذي طرحته و الذي يتمثل في إنهاء الفساد المستشري و العمل على دعم الخدمات الحكومية العامة غير الموجودة تقريبا في قطاع غزة و الضفة الغربية. و قد أثار هذا الحزب الديني إعجاب المجتمع العلماني السائد مما أهل الحركة لتفوز بما يقرب من 42% من مجموع الأصوات.
إن الفلسطينيين لم يصوتوا لحماس لأنها كرست نفسها لتدمير دولة اسرائيل أو لأنها كانت مسئولة عن موجة الهجمات الانتحارية التي أدت الى مقتل العديد من المدنيين الإسرائيليين. لقد صوتوا لحماس لأنهم اعتقدوا أن فتح و هو حزب الحكومة المرفوضة, قد خذلتهم. فعلى الرغم من رفض العنف و اعتراف حركة فتح بإسرائيل فإنها لم تنجح في إقامة الدولة الفلسطينية. إنه لمن المهم معرفة هذا الأمر لفهم الموقف الرافض المفترض لحماس. إن حماس لن تعترف بإسرائيل كما أنها لن تتخلى عن حق المقاومة حتى تتأكد من التزام العالم بالحل العادل للقضية الفلسطينية.
في فترة السنوات الخمس5 التي زرت بها غزة و الضفة الغربية, التقيت بمئات من السياسيين و المناصرين لحركة حماس. لا أحد منهم صرح أو زعم بأن هدف الحركة هو أسلمة المجتمع الفلسطيني على طراز طالبان. إن حماس تعتمد على أصوات العلمانيين بشكل كبير و لذلك فإنه من غير المحتمل أن تقوم بذلك. إن الناس لا زالوا يستمعون الى موسيقى البوب و يشاهدون التلفاز و لازال باستطاعة النساء أن يخترن ما إذا كن يرد ارتداء الحجاب من عدمه.
إن القادة السياسيين لحركة حماس لربما كانوا من أكثر حملة المؤهلات العلمية العالية في العالم. فالحركة تفتخر بوجود أكثر من 500 من حملة درجة الدكتوراه في صفوفها و غالب عناصر الحركة من الطبقة الوسطى من المهنيين سواء أكانوا أطباء أو أطباء أسنان و علميين و مهندسين. و أغلب قيادات الحركة درسوا في جامعات ليس فيها أي نوع من الكراهية الأيدلوجية تجاه الغرب. إن أساس وجود هذه الحركة هو الظلم الواقع على الشعب و قد كرست نفسها للتعامل مع حالة غياب العدل التي يتعرض لها أبناء شعبها. و تعرض الحركة بشكل مستمر هدنة مدتها 10 سنوات من أجل أن تعطي مجالا للتنفس لحل الصراع الذي استمر لفترة تزيد عن 60 سنة.
إن رد بوش- بلير على فوز حماس في عام 2006 هو عامل مهم لحالة الرعب التي نعيشها هذه الأيام. فبدلا من القبول بالحكومة المنتخبة ديمقراطيا فقد مولوا محاولة لإزالتها بالقوة؛ و عملوا على تدريب مجموعات مسلحة من حركة فتح من أجل الإطاحة بحركة حماس عسكريا و فرض حكومة جديدة غير منتخبة على الفلسطينيين. أضف على ذلك أن هناك 45 نائبا من حركة حماس محتجزون في السجون الاسرائيلية.
قبل 6 أشهر وافقت الحكومة الاسرائيلية على وقف إطلاق النار مع حركة حماس توسطت به مصر. و في مقابل وقف إطلاق النار وافقت اسرائيل على فتح المعابر و السماح بدخول المواد الأساسية من و الى غزة. و قد توقفت الصواريخ ولكن المعابر لم تفتح بشكل تام, و قد بدأ الناس في غزة يعانون من الجوع. و لم يكن هذا الحظر في صالح عملية السلام.

و عندما تساءل الغربيون حول ما يدور في ذهن قادة حماس عندما يأمرون بإطلاق الصواريخ نحو اسرائيل أخفقوا في فهم الموقف الفلسطيني. قبل شهرين تقريبا قامت قوات الدفاع الاسرائيلية بخرق الهدنة عندما دخلت غزة و بدأت بدورة من القتل هناك مرة أخرى. في كل الروايات الفلسطينية فإن كل دورة من الهجمات الصاروخية هي رد على الهجمات الاسرائيلية. و في الروايات الاسرائيلية فإن العكس هو ما يجري.
و لكن ما الذي يعني أن يتحدث السيد باراك حول تدمير حماس؟ هل يعني هذا قتل 42% من الفلسطينيين الذين صوتوا لصالحها؟ أم هل يعني هذا إعادة احتلال قطاع غزة و هو الذي انسحبت منه اسرائيل بشكل مؤلم قبل 3 سنوات؟ أم هل يعني هذا فصل غزة عن الضفة الغربية بشكل دائم, سياسيا و جغرافيا؟ و لأولئك الذين يتذرعون بأمن اسرائيل, كيف يمكن التعامل مع التهديد الذي يفرضه ثلاثة أرباع مليون شاب نشأوا في غزة على كراهية أولئك الذين عملوا على تجويعهم و قصفهم طيلة الفترة الماضية؟
لقد قيل إنه من المستحيل حل هذا النزاع. في الواقع فإن الموضوع بسيط. إن الأشخاص ال 1000 الأعلى الذين يحكمون اسرائيل (من السياسيين و الجنرالات و أجهزة الأمن) و قادة الإسلاميين الفلسطينيين لم يلتقوا أبدا. إن السلام الحقيقي يتطلب أن يجلس هؤلاء الأشخاص مع بعضهم البعض دون أي شروط مسبقة. و لكن أحداث الأيام القليلة الماضية جعلت من حصول هذا الأمر صعبا. إن هذا هو التحدي الذي يواجه الإدارة الجديدة في واشنطن و حلفائها الغربيين.

الجمعة، 16 يناير 2009

يا غزة

يا غزة..!
كيف سُيكتب التاريخ خلال الخمسين سنة القادمة ؟ ماذا ستقول كتب تاريخنا المدرسية عن "الماضي المشرق"!! حاضرنا الآن ملوثٌ بالسواد، ولم يكن ماضينا خلال الخمسين عاما الراحلة بأفضل من ذلك .. فحيث نشأت الأمم من ركام. . بقينا نحن نراوح مكاننا وحيث ناضلت الشعوب من أجل تحريرها واستقلالها، بقينا نحن نصافح أعداء الأمس واليوم بل أعداء التاريخ الأزليين ..وحيث انتصرت شعوب وأقوام لحريتها ودعمت حقوق الآخرين في نيل الحرية والكرامة شطبنا نحن من قواميسنا كل معاني العزة والكرامة. أسأل من جديد.. كيف يمكن للمؤرخين كتابة تاريخ أسود على صفحات الكتب المدرسية البيضاء؟هل سيتخمونها بأنصاف الحقائق كما يفعلون دوما مع تاريخ لا يجلب فخرا ..؟ ام سيتجاهلون الحقائق وذلك ليس بغريب على الساسة الذين لا يتعلمون أبداً من حقائق التاريخ وسننه ؟

الأحد، 11 يناير 2009

الخمسمائة عام القادمة !

نُشرت في جريدة الوطن.

أثار اهتمامي تطرق إحدى قنوات التلفزة العربية الفضائية لموضوع الشعوذة والدجل التي تتعرض لها قطاعات كبيرة من الأفراد البسطاء، والطرق التي يسلكها العديد ممن يدعون القدرة على الشفاء وكشف المستور وطرد الجن والأرواح . وحاول البرنامج المذكور الذي كان بعنوان ( اللقاء الحاسم) بيان وكشف بعض الطرق والأساليب الخبيثة التي تتبعها هذه الفئة للتلاعب بعواطف الناس وابتزاز أموالهم بعد إيهامهم بأنهم يتمتعون بقدرات على كشف سحرهم.

وتوافق هذا العرض التلفزيوني مع تصفحي لإحدى الكتب التي جذبني إلى اقتناءها عنوانها الخيالي ،ولأن متابعة أفلام الخيال العلمي متعة محببة بالنسبة إلي ، فقد توقعت أن يمزج الكتاب الذي سنذكره بين بعض الوقائع العلمية وأدبيات الخيال العلمي .

وكانت مقارنة مؤسفة وأنا أتصفح الكتاب وأشاهد البرنامج المذكور. ففي حين تبقى بعض مجتمعاتنا تحت رزح خرافات وادعاءات كاذبة تحاول خداع الناس واستغلال بساطتهم ، أدت إلى أن تفرد قناة فضائية عربية جانباً من برامجها لتبصير الناس وتوعيتهم نجد أن هنالك أفراداً ما يعيشون معنا على نفس الكوكب ، يتفاعلون مع جملة من التقنيات والأفكار المستقبلية ، تجعل كل جانب ينتمي إلى عالمٍ مختلفٍ عن الآخر وكأن كل طرفً منهم يعيش في عالمٍ متوازي مع الآخر ، وعلى حسب نظرية العوالم المتوازية فان ذات الأشخاص وذات الأحداث تتكرر في العالمين ولكن بشكل معكوس ، وهنا أرى أحدهما أبيضاً، والثاني أسوداً قابعاً في خرافات واعتقادات عفا عليها الزمن!

وقد تشاركني عزيزي القارىء الرأي في أن تصور شكل الحياة في المائة عام القادمة عمليةٌ معقدة لا جدوى منها فليست لدينا قوى النبي نوح الذي ظل داعياً قومه إلى التوحيد 950 سنة عدا ما لبثه فيهم قبل وبعد ذلك ! كما أن مخيلتنا لن تساعدنا هي الأخرى على تجاوز ذلك إلا إذا كانت مخيلتك واسعة ولديك من الابتكارات والتوقعات الكثير لتتوقعه لأحفادك القادمين ، ولكن هل يمكنك المجازفة إلى حد التفكير بمستقبل الحياة للخمسمائة عام القادمة؟

الصحفي أدريان بيري فعل ذلك في كتابه( الخمسمائة عام القادمة، الحياة في الألفية القادمة)،
والحقيقة أن الكتاب يبدو طريفاً من وجهة نظري، فقد سبق للكاتب وان ألف كتاباً يتحدث فيه عن الكون في العشرة الآف عام القادمة، واجد شغفه هذا مثيراً للاهتمام، كما أجده ذو مخيلة واسعة إلى أبعد حد رغم تأكيده في الكتاب أن الأحداث تبدو غير عادية وخيالية في وقت التنبؤ بها فقط وليس بعد أن تقع.

والكتاب مليء بأحداث تتطرق إلى الإنجازات والانتصارات التي ستحققها البشرية على مستوى الفضاء والتكنولوجيا واستعمار الكواكب الأخرى . ورغم إيماني بأن التفكير والتخطيط المستقبلي ضمانٌ لحياتنا وطموحاتنا ومشاريعنا وأنه أجدى من البقاء ( محلك سر) وانه انفع مليون مرة من استشارة العرافة أو المعلم أو من يدعون كشف الحجاب لمعرفة المستور والمستقبل ، إلا أنني حريصة أيضاً على أن يعيش أحفادي مستقبلا آمنا ، ولذا أقلقني عدم وجود أي نبؤة في هذا الكتاب تتعلق بانتصار السلام والرخاء البشري ! بل أن افتراض حروب أخرى وغير متوقعة أو عادية على الإطلاق هو ما يبشر به الكتاب !
فماذا يعني استعمار (القمر والمريخ وكواكب لا حصر لها ) كما يذكر الكاتب ، ألا يمكن افتراض حروب فضائية وكونية في سباق الاستعمار مشابه لخطط الاستعمار الأوروبي الذي مزق الدول، واخترق ثقافات وحضارات عريقة على وجه الأرض ، وماذا لو دخلت القوى الأرضية في صرا عات وحروب مذهلة مع سكان الكواكب الأخرى ؟ ( على افتراض وجود مخلوقات عاقلة يمكن التفاهم معها، ولكن المصيبة تكمن في المخلوقات الأخرى غير العاقلة ! )

ومع ذلك يبقى الكتاب مشوقا وطريفاً بالفعل في العديد من القضايا الأخرى التي يتطرق إليها، فالكاتب يتوقع قدرة الطب على استبدال الأجزاء المعطوبة من الجسد بما فيها العقل، وزراعة البحر، ومجيء عصر جليدي ثانٍ ، ووصول أجيال جديدة من الإنسان الآلي ذات الذكاء الفائق قد تحل محل البشر، ومن أغرب هذه الأمور كلها هو تخزين الشخصية الإنسانية على أقراص الحاسوب لاسترجاعها بعد الموت!
والحقيقة أن هذا مبشر إلى أقصى حد خاصةً فيما يتعلق بإمكانية استبدال الأجزاء المعطوبة كالعقل ، مما يسمح باستبدال عقول المجرمين والدكتاتوريين وأيضاً تلك العقول المؤمنة بالاستعانة بالجن وما شاكلهم ، ففي رأي أنها عقول معطوبة لا جدوى من بقائها واستنفاذها لكميات وفيرة من الموارد والمصادر المائية والهوائية والنباتية وغيرها، خاصةً وان الفترات المقبلة تنبأ بحروب مرعبة من أجل السيطرة على موارد الأرض بتنوعها وكثرتها!

وبشكل عام فإن للعبقرية سواء كانت في استغلال الناس والتلاعب بعقولهم وعواطفهم أو كانت في الاختراعات التكنولوجية المذهلة فان للعبقرية علاقةٌ .. بالجنون ! ولا أتذكر حقيقة مقولة من هي أن " مابين العبقرية والجنون شعرةٌ رفيعة " ! عموماً حمانا الله من الجنون وتبعاته وحمانا مما يحمله المستقبل القريب والبعيد، وأعتقد أن اغلب القراء يشاركوني الشكر في أن حياة كل منا لا تتسع لأحداث ورزايا مائة عام فما بالك لخمسمائة عام قادمة !





كيف تفكر .. على الحاسوب أم الورق؟

نُشرت في جريدة الوطن قبل عدة سنوات.

رؤية الورق قبل موضة الحاسوب كانت تثير شهيتي للكتابة ، رائحة الورق الجديد كانت تلهمني وتحفزني على أن اخترق سياج البياض الممتد بخربشات أقلامي المتعددة . وحين بد الناس باستخدام الحاسوب لطباعة وحفظ مدوناتهم وأفكارهم، ثرت على العصر الذي لا يثمن الأصالة، وأبت نفسي أن تنصاع لهذه الخيانة ، وقررت أن أظل وفية لأوراقي وملفاتي العتيقة ، وألا القي بالاً لتلك الأقراص المربعة المسماة بالقرص المرن ، وكان أسفي عميقاً على الذين تجاوزوا خلاّنهم من الأقلام والأوراق بدعوى التطور والحداثة.

ومرت الأيام وأنا أقاوم هذا الوافد الجديد اُقبل عليه حيناً واعرض عنه كلما راودتني أفكاري ، فكيف يمكن أن يكون التفكير على الحاسوب أجدى من التفكير على الورق ؟ لكن صروف الأيام أجبرتني على اللجوء إلى الحاسوب أكثر مما وددت وقررت أن أزاوج بين الأسلوبين ، فضميري أقسى من أن يتركني أتخلى عن حبيب قديم بهذه السهولة وما كان الحب في رأي البعض إلا للحبيب الأول ، ولم اعش عهد الرقاع والجلود وعظام الأكتاف لأتمسك بهذا الحبيب ، وأول عهدي وسنيّ عمري شبت على تقديس القلم والورقة البيضاء التي أحبها دون تسطير، لكي لا تعيش محبوبتي أسيرة بين الأسلاك والسياج .

أخذت أدّون أفكاري وبحوثي الدراسية على الأوراق ، ومن ثم أنقلها إلى الحاسوب وحين اضطر لإجراء تغيير ابحث عن مدوناتي أولاً وامسح بكل عناية ما علق بها من الأخطاء والهفوات قبل أن اجري ذات التغيير على الحاسوب ، ومرت الأيام وأنا لا أعي مقدار ما أوقعني فيه الحاسوب من شبهات والطريق التي قادني إليها ببراعة واقتدار، فألفت أصابعي ملمس الأزرار وصرت لا أقوى على التفكير والتأمل في كتابة مقال أو خاطرة بسيطة دون أن أبقي شاشة الحاسوب الشرهة لاقتناصي مفتوحةً ، واكتفيت بتدوين رؤوس الأقلام وبعض التعليقات المختصرة على ورقة جانبية تقلصت مساحتها وزال بياضها إلى أوراق صفراء صغيرة الحجم ، ولأن ذاكرتي ملىء بجنود مجهولين قادمين من الحاسوب للقضاء على تراثي وأرثي فقد أصبحت كثيرة النسيان أفقد تلك الأوراق الصفراء ولا أعثر عليها مهما طال البحث. ورغم إيماني بان تلك كانت مكيدة أجاد الحاسوب تدبيرها لكي أتخلى حتى عن بقايا المقاومة إلا أنني أنسقت ورائها وتنازلت عن تلك المدونات وسلمت زمام أمري إليه..

وانتصر الحاسوب في حرب اعد لها من التمائم والرقع ما جعلني أسحر بحبه ، ولا أرى لسواه منافسا، وأصبحت لا أطيق دونه فراقا ، ألجأ إليه كلما اشتقت للكتابة وكلما رغبت بالتفكير المنظم وبما أن الحب أعمى كما يرى البعض ، فقد أشقاني هذا الحب وأشقى جيوبي ، لكثرة ترددي على أطباء العيون ومحلات العدسات والنظارات ، وأصبحت أدرك في قرارة نفسي ، أنني جنيت هذا الجزاء لقاء غدري بأوراقي ، غير أني فوضت أمري للعلي القدير عساه يقبل توبتي وقلة حيلتي !


دفاعاً عن أمريكا..!


" كل مصائبنا من أمريكا" مقولةً يرددها العديدون منا أو يؤمنون بها ، فامريكا بوجهها الاستعماري الجديد ومطامعها التي لا تنتهي ، تسببت بخرابنا وتأخرنا وتفرّقنا..لكنها رغم ذلك ليست سبب كل مصائبنا، للأسف..!
لم تكن أمريكا سبب مصائبنا حينما قرر العرب مساندة "بطل العرب" صدام حسين ليخوض حرباً ضد دولة إسلامية جارة، لم تكن أمريكا مصيبتنا حين انتزع منا صدام دميةً جميلة ، فلجأنا باكيين إلى "بوش الأب" ليرد لنا الطمأنينة، ولنتساءل بعدها " الجيش العربي فين"، فلا جيش لدينا ولا أسلحة ولا مما نُرهب به قطة الحارة!
لم تكن أمريكا مصيبتنا حين هرب الآف العراقيين من جور صدام، وأصبحوا بلا وطن، وليصبح الجواز العراقي
ورقةً لا قيمة لها، ولتتخلى معظم الدول العربية، والخليجية خاصةً عن إخوةٍ لنا، ولتستقبلهم إيران الدولة التي طحنها صدام بحربه وطحن معها شعبهُ، ولتفتح لهم دولٌ غربية أبوابا مشرعةً من الأمل، ولتساوي بعضها بين إخواننا المهجرين ومواطنيهم من حيث الحقوق والواجبات.

لم تكن أمريكا مصيبتنا حين قررنا أن نكون أقزاماً في العلم والاقتصاد، وعمالقةً في جمع أحدث الأسلحة والتبجح بها في استعراضات ومناورات لا تُرهب سوى خيال المآتة في مزارع البؤس والذل.
لم تكن أمريكا مصيبتنا حين قررت أن تتغنى بالديمقراطية وقررنا أن نتغنى بالسلطوية، وتأليه الحكام، وتسّيس الدين، لم تكن مصيبتنا حينما منحنا حكّامنا مقاعد أبدية في سدّة الحكم، لم تكن هي أيضا مصيبتنا حينما نعتنا ما تهبه لنا حكوماتنا العربية من فتات العدل والكرامة بالمكرمات والعطايا والهدايا، وهي حقوقٌ مشروعةُ وأساسيةُ لكل مواطن. لم تكن أمريكا مصيبتنا حين كنّا نعقد المؤتمرات السنوية العربية، ونتفاخر بأنها " تحقق التقدم والازدهار والرخاء" أو " تسعى إلى تحقيق الكرامة للمواطن " ولم يتساءل أصحاب هذه المؤتمرات يوما عن الذي يجلب العزة والكرامة المزعومة ، وما الذي يبعد أشباح العار والسخط الرابضة في قلوبنا. لم تكن أمريكا حاضرةً لتعلمنا لعبة الكّر والفر بالكلمات ، وليست هي أخبر منّا بقاموس المجاملات واللطف العربي في أدّعاء تحقيق حريات وهمية، ووعود كاذبة تتجدد كل سنة بتحقيق الحلم العربي في تحرير فلسطين والعراق وبلاد الواق واق . فلا نعلم يقينا إلى من يتحدث القادة العرب حين يقولون" نطالب برفع الظلم عن أشقائنا في فلسطين والعراق ولبنان". طوبى للمُطالبين ، وطوبى للمُنتظرين خيراً، وطوبى للمُصدقين سراباً!

لم تكن أمريكا سبب خراب البيت، حين دمرالكيان الصهيوني الجرثومي لبنان ووجدنا بعض الدول العربية ترفع أكّفها بالدعاء لينصر الله إسرائيل ويخذل حزب الله، وليعم الرخاء على جموع الأمة العربية!

لم تكن أمريكا سبب تخبطنا كل سنة ، حين تتصور بعض الدول أنها تملك هلالاً خاصاً بأُفقِها، لتمنح نفسها حق تحديد عباداتنا وشعائرنا وأعيادنا الدينية حسب ما ترتأيه سياساتها ومصالحها الخاصة ، فتغير مواقيت الله في الأشهر الحرم وتزرع الفوضى والبلبلة في صفوف المسلمين في أقطار الأرض المختلفة. ليس عجبي من سكوت أمريكا المخرّبة على هذا الاحتكار الجغرافي والعبادي، عجبي من هذا " البنيان المرصوص وهذا الصوت الواحد والصف الواحد الذي يريد أن يكون دعماً لأمتنا العربية والاسلامية" كما يدّعي في قممه الخليجية، فيتهاون في أبسط قواعد الدين تطبيقاً !
يُبدع حُكامنا والمسئولين في بلداننا العربية في اختراع ويلاتٍ تتفاقم جيلاً بعد جيل، ولا تفعل أمريكا" ذات النوايا الحسنة"! سوى بمساعدتنا في ضبط الوصفة لترقى إلى المستويات العالمية!

الكوثر


تلك الأرواح الأربعة..
تلك الشموس المتفردة
آسية و مريم
خديجة وفاطمة
لم تضاهيهن إمرأة أخرى
من الأولين و الآخرين
شرفا وفضلا
ولم تنل إمرأة أخرى قط
شرف التألق في جنان الخلد
كسيدة نساء العالمين!
فاطمة البهية
تلك الحورية الأنسية
بل" الكوثر" في أجمل تجلياته
أم الشموس الاثنا عشر
أم الأنوار ولا نور كنورهم
ولا نور بعد نورهم
* **

أوحى الله إلى أم موسى
وتمثل الملاك لمريم بشرا سويا
وكان لفاطمة وحيا مؤنسا
زفتك ملائكة السماء يا زهراء
وثوب عرسك المضمخ بأريج الجنة
يصبح هبة العروس.. هبة من فُطمت على التقوى!
وفاطمة البتول عروسة الخلد المُرتجاة
ما تبرح تنشر العبق ونشوة اللقاء
هي ذا فاطمة عند الرحى غافية
ودوران الرحى لا ينقطع من حولها
ومهد الحسن يهتزدونما أيد تهز الرضيع
وتسبيح إلهي من حولها لا ينقضي!
* **

أيا زهراء
أيا زهرة الجنان ونفحة العطر الزكية
يا بنت النبي
وحليلة الوصي
وام الأولياء
ما أشد الشوق لرؤياك
وما أكثر الوله لمناهلك العذبة
* **
عشرون وردة انقضت
وفاطمة لم تزل يانعة
لكنها بعدك يا رسول الله
ملطومة الخد
مهدورة الحق
مكسورة الضلع
و"محسن" الوليد
لم يبصر النور
حين أُحرق بيت الزهراء
وحين أُسقط الوليد من ربوع الحياة
أيا فاطم ما تجوالك في بيت الأحزان
ما شكواك من سلب " فدك"
واسقاط "محسن"
وغصب الولاية
ما امر دفنك ليلا
ورحيلك سرا..؟
* **

أيا فاطم
هذا " البقيع" يلوح من بعيد
يؤجج الأحزان كل عصر جديد
فهنا تقف جلاوزة الجحيم دون قبرك والعاشقين
وهنا تُصادر الدمعة واللوعة وشوق الزائرين
وحول قبر أبيك تقيم سورا من حديد
تمنع لمسة الولهان وعناق المريدين
أيا فاطم ما انتظارك
بعد سم الحسن
وقتل الحسين
وغيبة الولي؟




5/2007

الخميس، 8 يناير 2009

نورما الخوري تعود للظهورفي فيلم وثائقي استرالي

نُشر في جريدة عمان، ملحق (شرفات) نوفمبر2007
متابعة ومشاهدة الفيلم: أمامة مصطفى اللواتي
من "الحب المحرّم" إلى " الأكاذيب المحرّمة" !
نورما الخوري تعود للظهور في فيلم وثائقي استرالي
رواية " الحب المحرم"
أثارت رواية "الحب المحرم" للكاتبة الاميركية، والأردنية الأصل نورما الخوري الكثير من الضجة والجدل عند صدورها في عام 2003. والحقيقة انه رغم مرورما يقارب الأربع سنوات على صدورهذه الرواية واكتشاف ما بها من تدليس ، إلا أن التساؤلات ما زالت قائمة حول كتب السير الذاتية والروايات المبنية على تجارب شخصية والتي ما زالت تشكل مادة مثيرة لدور النشر والقرّاء الغربيين. فمن متابعة شخصية لنوعية الكتب التي تحتل أرفف المكتبات الاسترالية، يمكن القول ان هناك العديد من الكتب المؤلفة من قبل شخصيات يتم تصويرها على أنها (ضحايا) نظام او مجتمع محدد، ولا يخفى ان عدداً منها ينتمي إلى دول عربية أو إسلامية كالعراق والسعودية وافغانستان وإيران وبعض المجتمعات الاسلامية في الدول الأفريقية. وغلاف هذه الرواية والذي تظهر فيه صورة ( إمراة عربية) تخفي نصف وجهها هو غلافٌ شائع لعدد من الروايات الواقعية التي تتواجد على أرفف المكتبات الإسترالية.

تتحدث رواية " الحب المحرم" أو Forbidden Love المبنية على أحداث حقيقية كما زعمت الكاتبة، عن جريمة شرف وقعت في الأردن عام 1995، راح ضحيتها صديقة الكاتبة داليا. وداليا هي الفتاة الأردنية الشابة، الجميلة.. والمسلمة، والتي وقعت في حب جندي مسيحي بالجيش الأردني إسمه"مايكل". ألتقت داليا بمايكل في صالون حلاقة مشترك في العاصمة الأردنية عمّان حيث كانت تعمل هي ونورما الخوري. وقد اضطرت داليا إلى إخفاء علاقتها بحبيبها الكاثوليكي خوفا على حياتها من عائلتها وبسبب التقاليد الاسلامية. جريمتها الوحيدة كما تقول الخوري هي: الوقوع في الحب!
قُتلت داليا لاحقا على يد والدها حينما اكتشف أخوها الأكبر علاقتها بالشاب المسيحي، وأصبحت حياة الخوري مهددة بالخطر لمعرفتها بتفاصيل الجريمة. وبسبب تهديدات والدها هي شخصيا بالاقدام على قتلها في حالة اصرارها على فضح الجريمة، أضطرت الخوري كما تذكر في روايتها إلى مغادرة الأردن خوفا على حياتها حيث بدأت بكتابة احداث روايتها في مقاهي الانترنت باليونان.
حصلت الخوري بعدها على حق الإقامة المؤقتة في استراليا عام 2002 مع زوجها وابنيها، ومن استراليا تبدأ الأحداث المثيرة لحياة نورما الخوري المتناقضة. فقد قبلت إحدى أشهر دور النشر وهي راندوم هاوس نشر أحداث روايتها الحقيقية، وبيع منها 200 ألف نسخة في استراليا وحدها، وما يقارب 40 ألف نسخة في بريطانيا، كما تم توزيعها في 16 دولة. اشتهرت رواية " الحب الحرم" بين القراء وأصبحت تتربع على قائمة أكثر الكتب مبيعاً في استراليا. كما ان إليزابث تشيني، الابنة الكبرى لديك تشيني نائب الرئيس الأميركي جورج بوش، تأثرت بهذه الرواية وراحت تقيم اتصالات مع الكاتبة بالهاتف والبريد الإلكتروني وتشجعها.

رواية مزّورة!
قدمت نورما روايتها المكتوبة بانكليزية متقنة على أنها هدية لصديقة عمرها، ولكي تلفت انتباه العالم إلى ما تعانيه المرأة من حالات غير انسانية في مجتمع عربي تسود فيه حالات القتل من أجل طمس العار الذي لحق بالأسرة، ليمضي هذا الجرم بدون عقاب بل ويوافق عليه المجتمع ويقّره. هذا السيناريو الذي رسمته الخوري في "قصة حياتها الحقيقية" ثبت لاحقاً أنه سيناريو مفتعل ويحوي الكثير من الأكاذيب..!
وقد بدأت احداث فضيحة نشر سيرة ذاتية مكذوبة من قبل واحدة من أشهر دور النشر، عندما اعلنت ناشطة وصحفية أردنية ان نورما الخوري لم تكن في الأردن عند حدوث هذه الجريمة بل كانت في شيكاغو في الولايات المتحدة الاميركية. وان هذه الرواية غير واقعية ولا تستحق كاتبتها التمتع بوضع لاجىء، ولا بالشهرة التي حققتها بسبب إساءتها للمجتمع الأردني والدين الإسلامي والتلفيق الأدبي. وقد أشارت الصحفية الأردنية وعدد من الشخصيات النسائية الأردنية المعروفة بأن رواية "الحب المحرّم" تتضمن العشرات من الأخطاء، التي لا يمكن لمرتكبها ان يكون قد عاش في الأردن! ومن هذه الأخطاء قول الكاتبة أن نهر الأردن يمر بعمّان، وإن الكويت تقع على حدود المملكة الهاشمية. إضافة إلى أن القوانين في الأردن لا تسمح بتأسيس صالون للحلاقة مشترك(رجالي ـ نسائي) كما أدّعت الكاتبة. وقد رفضت نورما الخوري هذه الادعاءات وأصرت على انها لم تزر الولايات المتحدة قبل صدور روايتها، وانها امضت جلّ حياتها في الأردن حيث كانت تملك الصالون المذكور مع داليا.

وقد تلاحقت أحداث هذه القضية عندما قرر احد الصحفيين الاستراليين وهو مالكولم نوكس تتبع الخيوط التي أثارتها الشخصيات النسائية الأردنية، حيث سافر إلى الولايات المتحدة الاميركية وتحديدا حيث أقامت نورما الخوري. وقد كانت المفاجأة أن الكاتبة غادرت الأردن برفقة عائلتها حين كانت في الثاثة من عمرها، كما أنها تحمل الجنسية الاميركية ومتزوجة من امريكي ذو أصل يوناني، ولديها طفلين. في حين ان الكاتبة التي كانت تعيش بسرية في إحدى ضواحي كوينزلاند باستراليا، لم تمانع بترويج وسائل الإعلام الاسترالية لها على أنها ( العذراء الأردنية). ولم تشر الكاتبة في روايتها الذائعة الصيت إلى هذه الحقائق، مخفية بذلك تفاصيل مهمة من حياتها عن وكيلها البريطاني وناشريها ومحاميها، بل وحتى الجارة الاسترالية التي اعتنت بأطفالها، حينما هربت الخوري من استراليا إلى الولايات المتحدة عند تفجر هذه الفضيحة.
وعلى إثر نشر مالكولم نتائج بحثه - والذي استمر 18 شهراً- في عام 2004 في صحيفة سيدني مورننغ هيرالد ، قررت دار راندوم سحب الرواية من المكتبات حتى يتسنى للكاتبة تقديم ما يثبت واقعية روايتها. وقد قدمت نورما الخوري عدداّ من الوثائق التي لم تكن مقنعة، قررت الدار على إثرها إتلاف الرواية وعدم نشر الجزء الثاني منها وعنوانه "مسألة شرف" والذي كان من المقرر ان يتم طرحه في الأسواق. ولم يكن من الغريب ان تتلقف وسائل الإعلام الاسترالية هذه القصة، حيث اعترفت نورما الخوري في مقابلة على التلفزيون الاسترالي، القناة التاسعة انها زّورت اجزاء من روايتها، وانها كذبت بشأن قصتها الحقيقية لكنها أصرت على ان داليا ماتت مقتولة في جريمة كانت هي الشاهدة فيها.

العودة في "أكاذيب محرمة"
وقد عادت نورما الخوري إلى الأضواء مجدداً عبر فيلم وثائقي بعنوان "الأكاذيب المحرمة" Forbidden Lie$ تم عرضه في مدينة بريزبن الاسترالية في سبتمبر2007 للمخرجة الاسترالية آنا برونوسكي. وقد وصف بعض النقاد الفيلم بانه احد أفضل الأفلام الوثائقية لهذا العام. وكما تعلّق صحيفة (الاسترالية) Australian فإن هذا الفيلم عبارة عن رحلة في عقل وتفكير الكاتبة نورما الخوري أكثر مما يهدف إلى البحث الموضوعي عن مصداقية روايتها. أحداث الفيلم التي تمتد عبر ساعة وعشرين دقيقة ممتعة ، تتخللها كوميديا استرالية خالصة، وتمثل فرصة ذهبية لبطلتها الرئيسة نورما الخوري لاثبات خطأ ما اُشيع حولها وحول روايتها المثيرة. تنتقل المخرجة في هذا الفيلم من كوينزلاند حيث أقامت الخوري مع عائلتها في استراليا إلى عمّان حيث زعمت الكاتبة انها امضت جلّ حياتها، ومن ثم إلى شيكاغو حيث تثبت الوثائق والأوراق الرسمية وعائلة الخوري المكّونة من والدتها وإخوتها، بل وحتى الجيران إقامة نورما بها منذ ان كانت في الثالثة من عمرها. وبقدر ما يمنح هذا الفيلم الفرصة للخوري للحديث والدفاع عن نفسها، بقدر ما يظهر شخصيتها الجذابة وأساليبها الملتوية وقدرتها على إختلاق الحقائق وإحاطة نفسها بمزيد من السرية. ترافق نورما المخرجة آنا إلى الأردن حيث تصطحب الكاتبة معها حارساً شخصياً أمريكيا، وتبدو نورما في مشاهد عدة من الفيلم وهي تدخن بكثرة.

يبدأ الفيلم بمشاهد درامية تظهر فيها شخصيات تمثل دور داليا وأفراد عائلتها والجندي الاميركي مايكل، ومن ثم مشاهد من جريمة قتل داليا حسب ما ورد في رواية الخوري، لتعود المشاهد مختلفة من جديد حسب روايات معارضي نورما الخوري.
يجري الفيلم العديد من اللقاءات مع أطراف مختلفة في هذه القضية يجمع اغلبها على اعتبار نورما شخصية مضللة. تجري المخرجة لقاءات مع عدد من الشخصيات الأردنية الناشطة في مجال حقوق المرأة بالأردن، وتزورالمستشفى الذي زعمت الخوري ان داليا نُقلت إليه بعد ان طعنها والدها حتى الموت، حيث تبحث المخرجة في السجلات الرسمية لحالات الوفاة دون ان تجد اسم داليا من بينها، ومن ثم إلى الشارع الذي أدّعت نورما وجود الصالون المشترك به، وأيضا دون وجود أثر لهذا الصالون. ومن ثم تمضي المخرجة بالمُشاهد إلى شيكاغو ، لتجري لقاءات مع أحد المسئولين حول دعاوى قضائية مرفوعة ضد نورما الخوري، ومن ثم إلى الحي الذي عاشت به نورما. وتعود بنا الكاتبة إلى كوينزلاند حيث تجري لقاءات مع الصحفي الاسترالي مالكولم، والجارة السابقة لنورما. ولا تنسى آنا ان تجري لقاءات مع وكيل نورما في لندن وناشرين آخرين تلقوا روايتها دون التحقق من مصداقية ما نشر فيها من احداث.

الجميل في الفيلم ان المخرجة نجحت في منح المشاهد فرصة التعرف على جوانب قضية الخوري المثيرة للجدل، حتى لو لم يكن المشاهد مطلعا على رواية " الحب المحرم"، ولكن من جانب آخر فقد فشلت الخوري رغم كونها البطلة الرئيسة في إثبات مصداقية روايتها، ليصبح العنوان الذي اختارته المخرجة "الأكاذيب المحرمة" مرادفاً للشهرة والثروة التي حققتها الخوري بفضل هذه الرواية. وأذكر تعليق صديقة استرالية بعد أن خرجنا من صالة العرض :" لم أسام من الفيلم، لكني سأمت من الاستماع إلى أكاذيب نورما المتكررة"!

المصادر:
1- صحيفة( الاسترالية) Australianسبتمبر15-16 2007
2- صحيفة سيدني مورننغ هيرالد The Sydney Morning Herald 13 سبتمبر 2007
3- صحيفة سيدني مورننغ هيرالد The Sydney Morning Herald24 يوليو 2004
4- فيلم ( الأكاذيب المحرمة) سبتمبر2007، مدينة بريزبن
5- The Age on line 18/8/2004
6- Femail.com.au
الصور:
1- غلاف رواية " الحب المحرم" نورما الخوري.
2- ملصق الفيلم الوثائقي " الأكاذيب المحرمة" وتظهر فيه صورة الكاتبة نورما الخوري.

الثلاثاء، 6 يناير 2009

مشاهد من كربلاء

في ذكرى استشهاد الحسين بن علي (ع)

الزمان: 10/ محرم/61 هـ
المكان: صحراء كربلاء
كل المشاهد التالية مرتبطة بالمكان والزمان ذاته .
المشهد الأول:
الحسين(ع):" بني كيف الموت عندك " ؟
القاسم: " فيك أشهى من العسل" !
تقدم القاسم بن الحسن ، في رجليه نعلان من خوص، عليه قميص وأزار، بيده سيف..
من بريق عينيه الشبيهتان بوالده الحسن سبط النبي ، تلمح سنواته الاثنتا عشر أو الأربعة عشر.

تقدم من الحسين طالباً الأذن بالقتال ، أبى الحسين أن يأذن له فهو التذكار الأجمل من أخيه الحسن ، لكن عزم القاسم لا حدود له ، فانحنى على ركبتي عمه يقبلهما ويتمسح بهما ، طالباً الأذن مرة أخرى.
كانت أنشودة حربه :
إن تنكروني فأنا نجل الحسن سبط النبي المصطفى والمؤتمن
مشى إلى الموت والقوم في انبهار من شجاعته الفائقة رغم سني عمره القليلة ، انحنى يصلح خيطاً في نعله وهو في ساحة المعركة، فالقوم بكل ما لديهم لا يساوون لديه خيطاً واحداً في نعله ، انتهز العدو انشغاله ، انهالت عليه السيوف والرماح ، ومن تحت حوافر الخيل جاء النداء الأخير:
" يا عماه أدركني" ! فقد شرب القاسم من الموت ، شرب من العسل !

المشهد الثاني:
" قمر بني هاشم" أبو الفضل العباس ، جميل بني هاشم ، الرجل الوسيم الذي كان يركب الفرس المطهم ورجلاه تخطان الأرض ، وحامل بيرق الموت ، بيرق كربلاء ! أحد أبناء علي بن أبي طالب ، اسمه العباس ويكنى بأبي الفضل وأمه أم البنين ، قتل أبناؤها الأربعة في كربلاء .
جاء يطلب الماء من العدو، فقد أحرق الضمأ أكباد الأطفال ، وجف اللبن في صدور المراضع ، وهاهي سكينة بنت الحسين تنتقل كالطير الذبيح من خيمة إلى أخرى تطلب الماء لأخيها الرضيع عبدالله . لعل أحداً من القوم يرحم غربة هؤلاء الأطفال ، لكن الجواب اتاهم سريعاً: " يا ابن أبي تراب .. لو كان وجه الأرض كله ماءً وهو تحت أيدينا لما سقيناكم منه قطرة إلا أن تدخلوا في بيعة يزيد ".
أعلن الفضل هدفه يجب الحصول على الماء بأي ثمن ولو كان هذا الثمن أن يقتل ، فلقد وعد الأطفال العطشى بالماء ، ثم أليس هو " ساقي عطاشى كربلاء" ؟
نجح الفضل في مسعاه في الحصول على الماء من نهر الفرات عبر الدخول في طرق فرعية بين النخيل ، غير أن الأعداء كمنوا له في طريق العودة ، وقطعوا يده اليمنى تلك التي كانت تحمل قربة الماء ،حملها في اليسرى وخيال سكينة تنتظره مع الرضيع وبقية الأطفال لا يفارق قلبه ، قطع القوم يسراه ، فحط القربة على قربوس الفرس وامسك عنقها بأسنانه فما عاد يملك أيدي تحمل القربة ، جاءه عمود على رأسه ، وطعنة أليمة من الظهر، وسهم في العين فسقط وسقط معه البيرق .
يقال أن الحسين هرع إليه ملتاعا وهو يتمتم " الآن قد انكسر ظهري ، الآن قد قلت حيلتي" فقد رحل حامل اللواء البطل. ويقال أيضاً : أن بيرق الحسين حينما نُشر لم يجد فيه موضعاً سالماً من السهام إلا قبضة الكف التي كانت تمسك به" !

المشهد الثالث:
علي الأكبر.. أول من استشهد من أهل بيت الحسين (ع) عمره خمس وعشرون سنة . شاب حسن الصورة جميل المنظر على وجه لا نظير له ، قيلت فيه أجمل ما سمعت من الأبيات:
جمع الصفات الغر وهي تراثه
من كل غطريف وشهم أصيد
في بأس حمزة في شجاعة حيدر
وأباء الحسين وفي مهابة أحمد
وتراه في خلق وطيب خلائق
وبليغ نطق كالنبي محمد(ص)

بكى الحسين عليه السلام حين برز الأكبر للقتال ورفع سبابته نحو السماء قائلاً :" اللهم أشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك وكنا إذا اشتقنا إلى نبيك نظرنا إلى وجهه اللهم امنعهم بركات الأرض وفرقهم تفريقا".
قتل الأكبر جمعاً كبيراً من الأعداء حتى ضج الأعداء من ذلك ، رجع علي الأكبر إلى أبيه الحسين وقد فتت نار العطش أحشاءه " يا أبتي العطش قد قتلني وثقل الحديد قد أجهدني فهل إلى شربة ماء من سبيل " ! أغرورقت عينا الحسين فما أبسط حاجة ابنه العزيز وما أصعب تلبيتها فقد حبس القوم الماء عنهم." بني أرجع إلى قتال عدوك فاني أرجو إنك لا تمسي حتى يسقيك جدك بكأسه الأوفى لا تظمأ بعدها أبدا " .
احتوشه الأعداء من كل جانب ، أطالوا ضربه وقطعوه ارباً اربا ، أدركه الحسين حين هوى على الثرى ، وضع خده على خد ولده ورفع الحسين صوته بالبكاء ولم يسمع أحدا إلى ذلك الزمان صوته بالبكاء وقال: " قتل الله قوماً قتلوك ما أجرئهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول ، بني بعدك على الدنيا العفا ".

المشهد الرابع:
لما أن هدأت العاصفة كان أكثر من سبعين رجلاً من أصحاب وأنصار وأهل بيت الحسين مقطعين على رمال كربلاء ، لم يبقى في الخيام غير النساء والأطفال ورجل واحد، والابن الوحيد المتبقى للحسين ، إنه الشاب العليل علي الملقب بزين العابدين لحسن وكمال عبادته ، والملقب بالسجاد لكثرة سجوده وقيامه، أنهك المرض هذا العليل ،وأقعده على فراش المرض طوال واقعة كربلاء ،فكان الناجي الوحيد من الرجال ، وظل لما يزيد عن أربعين سنةً يبكي وقائع تلك المذبحة.
تمتم الحسين بن علي مع نفسه :
" أقدم نفسي لا أريد بقائها
لتلقى خميساً في الوغى وعرمرا
فان عشت لم أندم وان مت لم ألم
كفى بك ذلاُ أن تعيش وترغما "
التفت عن يمينه فلم يرى أحدا ، التفت عن يساره فلم يرى أحدا ، طفق يخاطب الجثث الموزعة على رمضاء كربلاء ، " ألا من ناصر بنصرنا، إلا من ذاب عن حرم رسول الله " أتكون هذه أفجع صرخة انطلقت في مأساة كربلاء ؟ أو تكون صرخة الحسين وهو يطلب النصرة والعون في سبيل الحق أقوى صرخة وأكثرها ايلاما في تاريخ كربلاء؟ أم أن صرخة زينب بنت علي بعد ذلك وهي تعانق جسد الحسين وتخاطب السماء : " إلهي تقبل منّا هذا القربان" هي الصرخة المدوية في تلك الأحداث ، أم أن صريخ النساء والأطفال وهي تتدافع مذعورة من الخيام المحترقة بعد قتل الحسين هي الأشد أم أن منظر الروؤس وقد فصلت عن الأجساد وحملت على الرماح هي المحنة الأقسى ؟

أم هو نداء الحسين قبل أن يذهب إلى ساحة الحرب وقد ودعّ النساء " يا زينب ويا سكينة ويا فاطمة ويا أم كلثوم عليكن مني السلام ، فهذا آخر الاجتماع " أم أنه رض الأجساد بحوافر الخيل ، أم أنه جلوس شمر بن ذي الجوشن على صدر سبط النبي وحزه لرأس الحسين ومن ثم حمله على الرمح لتراه النسوة والأطفال ، ولتراه بعد ذلك فاطمة الصغيرة بنت الحسين ، فتفجع بالبلاء وتقضي نحبها باكية بعد أن شكى قلبها الصغير ذل الأسر ووجع البعاد وقسوة القوم على رأس أبيها المقطوع دون رحمة؟

المشهد الأخير:
لماذا الحرب ؟
في رؤية الشهيد لحماية المضطهدين والدفاع عن الرسالة . ألم يقل الحسين " لم أخرج أشراً ولا بطرا بل خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي " .
لماذا الموت؟
القضية ليست ألا تموت أو تموت بل كيف تموت؟
الم يقل الحسين " الموت خير من ركوب العار والعار أولى من دخول النار"
السلام عليك أيها الحسين ، السلام عليك وعلى شفاهك التي تمتمت بهذه الأبيات :
" تركت الخلق طرا في هواك وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحب أربا لما مال الفؤاد إلى سواكا "
سلامٌ عليك يا أبا عبد الله ، سلامٌ على جسمك السليب ، سلامٌ على نحرك الطعين ، سلام على رأسك الشريف ، السلام عليك وعلى أهل بيتك ومن استشهد معك في هذا اليوم الجلّل .

ملاحظة: اعتمدت أحداث هذه الفصول على عدد من المصادر التاريخية الموثوقة.

منظمات "حمراء" تخلط العنف بحمرة الأزهار

نُشر في نشرة (المسار) الصادرة عن دائرة العلاقات العامة بجامعة السلطان قابوس، العدد 121، نوفمبر2007


الإشارات الحمراء تومض بالخطر، تجبرك على التوقف والانصياع لسطوة اللون، تلك السطوة التي تمتزج بمعاني الغضب والثورة والدماء وتاريخ طويل من الحروب والصراعات. يتفنن علماء النفس بدراسة معاني الألوان وتأثيراتها على النفس البشرية، ويحرص مهندسو الديكور على الحذر عند استخدامهم للون الأحمرفي تصاميم غرف البيت ، وبقدر حرصهم هذا يحرص المحبون على التعبير باللون الاحمر كلما جنح بهم الخيال إلى المحبوبة.

ومن العجيب أن الساسة والثوار اتقنوا استخدام هذا اللون للتدليل على الرغبة في التغيير الاجتماعي أو السياسي مصحوبا بالقوة وفي بعض الحالات بالعنف الشديد. الحرب الأهلية في روسيا والحرب الأهلية في فنلندا شهدت وجوداً لما يسمى بالقوة الحمراء او "الجيش الأحمر" مقابل مجموعة من "الجيوش البيضاء". والتاريخ يشهد للجيش الأحمر السوفيتي وحلفاؤه دوره في إلقاء الهزيمة بألمانيا وحلفائها من إيطاليين ويابانيين ووقف الزحف الهتلري النازي. إلا أن هذا التاريخ يشهد بدموية الجيش الأحمر وبقوانينه الصارمة كمعاقبة بعض الكتائب بإرسالها في موجات انتحار جماعية، كما أن الشيشانيين خاضوا نضالاً طويلاً ضد الجيش الأحمر لاحتلال الروس منطقة القوقاز.

وليس الجيش السوفيتي الوحيد الذي اتخذ اللون الأحمر للدلالة على قوته وقدراته، بل إن الجيش الأحمر الياباني عرف بهذا اللون، وهو منظمة دولية أسستها فوساكا شيغينوبو عام 1971، وكانت من أهدافه الإطاحة بالحكومة اليابانية والحكم الامبراطوري والملكي لبدء ثورة عالمية. وعرفت بأنها من أكثر الحركات الفدائية إثارة للخوف. ومن اللافت أن هذه المنظمة عرفت بعلاقاتها الوطيدة مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وفي بداية الثمانينات من القرن الماضي، اعتمد الجيش الأحمر الياباني في اليابان على الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين للحصول على الدعم المالي والتدريب والسلاح.

ولم يتوقف ارتباط الزعيمة اليابانية بالجبهة الفلسطينية عند حد تأسيس قواعد للجيش في لبنان، بل انها تزوجت برجل فلسطيني، وألفت كتابا بعنوان ( قررت ولادتك تحت شجرة التفاح) وجهته إلى ابنتها "مي" وقد حكم على فوساكا شيغينوبو في عام 2006 بالسجن لعشرين عاما لتورطها في اعمال اغتيال واختطاف.

وفي فترة حكم استمرت لثلاث سنوات ونصف من عام 1975 وحتى عام 1979قام الثوارالشيوعيون الكمبوديون الذين يعرفون بـ" الخمير الحُمر" بقتل ما يقارب المليون ونصف المليون من سكان كمبوديا، مارسوا خلالها عمليات قتل منظمة وتعذيب وتهجيرقسري للسكان. وتم طرد الخمير الحمر من الحكم اثر اجتياح فيتنامي في 1979. وتوفي زعيم الخمير الحمر بول بوت علم 1998 حيث انهارت حركته بعد ذلك فيما بقي معظم قادة الحركة طلقاء بدون محاكمة، وقد طالعتنا الصحف قبل عدة أيام بخبر إلقاء القبض على ينغ ساري وزير الخارجية في عهد " الخمير الحمر" وزوجته بتهم ارتكاب جرائم ضد الانسانية.

أما منظمة الألوية الحمراء الإيطالية فهي منظمة إرهابية يسارية متطرفة أو رجال عصابات كما يصفهم البعض سعت إلى تهيئة إيطاليا في السبعينيات لثورة ماركسية، وقد مارست المنظمة في تركيبتها الاصلية عدة اعمال عنف في ايطاليا في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، بما في ذلك اختطاف رئيس وزراء ايطاليا السابق الدو مورو ورفض إطلاق سراحه إلا بإخلاء سجنائهم ولما رفضت الحكومة مطالبهم قاموا بقتل رئيس الوزراء.

ولم يتوقف اللون الأحمر من الظهور على مسرح الساسة والثوار، فقد عاد هذه المرة ليطارد الرئيس الامريكي جورج بوش. حيث نشرت إحدى الصحف التشيكية قبل عدة أيام بياناً لتنظيم مسلح اطلق على نفسه إسم " الفرع التشيكي لتنظيم الجيش الأحمر" وقد هدد فيه القيام بأعمال قتل وعنف إذا ما صمم بوش على نشر منظومته الجديدة للدفاع الصاروخي في الأراضي التشيكية. ورغم ارتباط " الأحمر" بالفن والجمال والمرأة والجاذبية والجرأة، إلا ان تاريخ الحركات السابقة يوحي بسوداوية " اللون الأحمر" إن صح التعبير! وبالدماء والمآسي التي لطخت بها صفحات التاريخ "البيضاء".

الجزء الأخير: خيبة أمل!

هل من العدل عقد مقارنة بين تجربة طفلتي مع النظام الاسترالي لمدينة بريزبن في تلك المدرسة الحكومية وبين تجربتي لاحقاً في مدرسة خاصة بالسلطنة؟ البعض قد يعتبر ذلك اجحافاً ليس لأن الأولى حكومية والثانية خاصة، بل لأن تلك متقدمة في نظمها التعليمية ونحن ما زلنا نحاول ونسعى لكي نطّور قدر الإمكان من نظمنا وأساليبنا التعليمية. نعم هذا صحيح، ولذلك يصبح الحديث عن هذه التجارب ضرورياً بغرض الاستفادة والتطوير، وبالتالي فهي لا تهدف إلى الانتقاص من أية مدرسة لأن القضية لا تتعلق بمدرسة محددة بل بمجمل النظام الدراسي.

بطبيعة الحال أول مشكلة واجهناها هي الدراسة باللغة العربية، وكون ابنتي أمضت أول سنتين من دراستها الاساسية بلغةٍ اخرى. لكنها كانت قادرة على التواصل والتعبير بطلاقة بلغتها الأم. أدركنا ان المدارس لدينا تخشى من تجربة استقبال طفل بهذه الحالة، لعدم وجود انظمة مناسبة ومصممة للتعامل معها. وبطبيعة الحال فإن المعلمة تتوجه باللوم إلى الأباء والأمهات لأنهم لم يعتنوا بتقوية ابنائهم خلال دراستهم بلغة أخرى، بل وتحرص على إشعارك بتأنيب الضمير وبمقدار الخطأ الذي ارتكبته بحق ابنك اوابنتك، وتحذيرك مسبقاً ان طفلك قد (يفشل) نتيجة لكل ما اقترفته يداك! وهكذا تفقد في بداية المعركة أول أسلحتك وهي الثقة بنفسك كأم وأب وبتقصيرك واهمالك، كما تفقد الثقة بقدرة ابنك الذي استطاع تخطي كل الصعاب في دولة اجنبية مع ثقافة ولغة وتفكير مختلف، لتواجه بفشله المتنبأ في بلده وبين أقرانه وبلغته التي يجيدها ويتحدث بها منذ ان ولد!

تخرج من المدرسة وانت مكسور الخاطر، فاقد للثقة بل وتتوقع في أية لحظة فشل طفلك. والذي يحدث والذي قد واجهه البعض بالفعل ان المعلمة تقترح عليك حلاً ، يخلصها طبعاً من هم التركيز على طالب متأخر، وهو وضع الطفل في سنة دراسية أقل من عمره، لتسهيل الأمور على الجميع، دون التفكير بنفسية هذا الطفل الذي يدرك ما يجري حوله، ويدرك أن قدراته قيد التشكيك.. وربما لأنه طالب (خايب)! وما أقسى ان يبدأ الطالب عامه الدراسي بهذا الشعور.

بعد رفضي لعروض مشابهة وبعد ان كدت ان أفقد ثقتي بقدرة ابنتي، تذكرت قول معلمتها في مدرستها الاسترالية انها أبلت خلال سنتيها الدراسيتين أفضل من بعض الطلاب الاستراليين انفسهم، وانها تملك الصبر الكافي وحب المعرفة. قررت ان لا استمع لمحاولات زرع الاحباط المستمرة، وبعد وعود من جانبي ببذل جهد مضاعف مع ابنتي ومناقشات مطولة مع مدّرستها، أذعنت المدّرسة ووعدت ببذل جهدها مع ابنتي وقد فعلت ذلك بالفعل.

ما زالت ذكرى الحفلة التي أقامتها المدرسة الاسترالية بمناسبة انتهاء العام الدراسي ماثلة في خيالي. فقبل فترة كافية من الاحتفال تلقينا دعوةً موجهة للعائلة لحضور الحفلة في الصالة الرياضية بالمدرسة والمجهزة بمسرح. وطلبت المُدّرسة بلباقة المشاركة بوجبة خفيفة كنوع من التعرف على وجبات مختلفة من الجنسيات العديدة التي تضمها المدرسة. حملت معي طبقاً عربياً. ولم أنسى أن أسأل ابنتي حول ما إذا كانت مشاركة في الحفلة، فأجابت بأن الصف بأكمله يشارك بفقرة في الحفلة. وقد دهشت كثيراً وسألتها :متى قمتم بالتدرب على الأداء في الحفلة؟ اجابتني اثناء حصة النشاط!

القاعة الرياضية صفت بكراسي عادية، ليس من بينها كراسي حمراء في المقدمة، وفي نهاية القاعة وضعت طاولة واسعة صفت عليها الاطباق المتعددة الجنسيات والتي قام الآباء والأمهات باعدادها.
بدأت الحفلة متأخرة عشر دقائق وتوالت فقراتها الجميلة التي قدمتها صفوف السنة الدراسية الأولى، وقد قام الطلاب بتصميم أزيائهم التي ارتدوها في الحفلة، وكان رائعاً هذا الاحساس، بأن ابنك/ابنتك هو مبدعٌ صغيرفي عملة وأداءه. العرض كان جميلاً ومؤثراً وخالياً من البهرجة.انتهت الحفلة لتصعد مديرة المدرسة إلى المسرح وترحب بالحضور، وبكلمات بسيطة ومباشرة لكن صادقة شكرت المدرسات الذين قاموا بجهد التدريب والطلاب الذين اجادوا الأداء.

هل تتحمل عزيزي القارىء ما سأكتبه الآن عن التجربة التي مررنا بها هنا لحفلة نهاية السنة الدراسية؟
كانت ابنتي تنتزع من حصصها الأساسية ليتم تدريبها على الفقرات التي ستشارك بها في حفلة نهاية السنة الدراسية التي تقام لطلاب السنة الدراسية الأخيرة فقط وبالتالي لا يحق لأولياء الأمور من المراحل الدراسية الأخرى الحضور ما لم يكن ابنهم او ابنتهم مشاركا في هذه الحفلة التي لا تخص الطلاب الآخرين أساساً. الحفلة ستقام في أحد الفنادق الراقية وبالتالي السجاد الأحمر سيكون حاضراً ولن يبدأ الحفل في الموعد الذي تم إبلاغ اولياء الأموربه، بل يفترض ان تعطل أعمالك كلها حيث عليك تحمل تاخر الحفلة لساعة كاملة حتى حضور الضيوف المميزين الذين خصصت لهم المقاعد الأمامية. اعتقد أن ذلك مألوف بالنسبة لك قارئي العزيز!

ما أثار غيضي أن ابنتي فوتت حصصها الدراسية لمدة شهر كامل ، وفي النهاية تم الغاء إحدى الفقرتين اللتين شاركت بهما والتي تطلبت بالذات تدريبا وجهدا اضافيا. وفي يوم الحفلة تم استدعاء المشاركين من بعد الغذاء – طبعا المشاركين معظمهم اطفال- واستمرت الحفلة حتى الساعة الحادية عشر من مساء نفس اليوم ولم يقدم للأطفال المشاركين أية وجبة (تصبيرية) حتى موعد البوفيه!
أما عن ( الخطابات) التي تم القائها فقد كانت فارغة المعنى والمضمون، ليست أكثر من جمل إنشائية سيتم تكرارها في العام المقبل مع تغيير عدد المتخرجين والتواريخ، ولا تعبر عن روح المناسبة بصدق، خاصة وأننا كعرب بارعون في فن الخطبة (الطلّلية) التي تبدأ حتى لا تنتهي!

الجزء(4) الصف ورشة صغيرة

لم تتوقف هذه المدرسة عن إدهاشي، فقد كنت أجد ابنتي تحمل إليّ بين فترة واخرى لوحات رسمتها بريشتها. ولمعرفتي أن موهبة ابنتي في الرسم عادية فقد كنت أجد اسلوبها مميزاً ويتطور يوما بعد يوم، مزوداً إياها بتقنيات وأفكار جميلة ومبدعة صالحة للتطبيق من قبل غير الموهوبين، بل إنها تخلق موهوبا بتقنياتها الجميلة. اما حصص الموسيقى فقد كانت تسلية الطلاب جميعاً، حيث يصطف الطلاب جالسين بأريحية على أرضية الصف ليستمعوا إلى معلمة باسمة تعزف لهم على البيانو وتعلمهم كيف يتفاعلوا مع ألحان اناشيدها الطفولية.

ولم تكن حصص الرياضة من قبيل سد وقت الفراغ، فقد ارتفعت لياقة ابنتي البدنية بشكل ملحوظ وأصبح جسمها لينا مطواعا لحركاتها الرياضية، ولم يتوقف تشجيع المدرسة للرياضة عند هذا الحد، فقد كان درس السباحة في حوض المدرسة الخاص، درسا اسبوعيا اجباريا، يمرّن فيه الطالب على السباحة والغوص. وكانت إدارة المدرسة تشدد على صحة وسلامة الأطفال بالتذكير المستمر بضرورة تزويد الأطفال بكريمات الحماية من الشمس وارتداء ملابس السباحة التي تغطي أغلب الجسم للحماية من الشمس. بالإضافة إلى ان إدارة المدرسة كانت تشجع انضمام الطلاب للفرق الرياضية المختلفة بأسعار معقولة، إلى جانب دروس اليوغا المخصصة للأطفال.

لا يمكن القول ان النظام الدراسي الاسترالي خالي من العثرات، فأهم عيوبه أنه لا يستطيع منح الطالب الرؤية الشاملة والثقافة العامة التي كنا نكتسبها في مدارسنا، كما أنه لا ينمي ملكة الحفظ بشكل جيد، لكن أهم ايجابياته انه يخلق طالبا واثقا من قدراته ومعلوماته، يمتلك قدراً من الخبرة والممارسة التي تزداد بانتقاله إلى الصفوف العليا، وتمنحه المهارات الحياتية للتعامل مع من حوله بايجابية، كما انها تدرب عقله على التفكير والتحليل والاستقلالية. وإحدى الامثلة التي تستحضرني هنا، ان الطالب كان يحمل معه في بداية العام الدراسي ورقة تتضمن المواضيع التي ينبغي ان يقدم فيها الطالب عرضا امام زملائه، ولم يكن الامر يتطلب منّا غير مساعدة بسيطة كإرشاد الطفل إلى طريقة العرض والتقديم.

ويمكن القول ان النظام الدراسي لمدينة بريزبن على الأقل يعتمد على وضع عدسة مكبرة على عدد من القضايا والتركيز عليها لفترة دراسية معينة. فبدلاً من دراسة عدد كبير من المواضيع ، يتم التركيز على قضايا محددة . فمثلاً عوضاً عن دراسة مواضيع متشعبة من عالم الحشرات والبيئة والنبات، يطلب من الطلاب التركيز على موضوع واحد كالحشرات، وبدلا من دراسة هذه الحشرات على صفحات الكتب بشكل نظري او مشاهدتها قابعة في مختبر المدرسة، كانت المعلمة تعمد إلى تشجيع الطلاب على البحث عن هذه الحشرات في البيئة من حولهم وتزودهم بالأدوات اللازمة لالتقاطها بواسطة ملاقط صغيرة ووضعها في علب بلاستيكية شفافة. ومع نهاية الفصل المخصص لدراسة عالم الحشرات، وجدت ابنتي تمّيز بين انواع شتى من الحشرات وأسمائها المختلفة، بل وحتى الأنواع الخطرة منها، واهم خصائصها، وأحياناً الغذاء المفضل لديها!
والحقيقة اني لم اجد ابنتي يوما قد فتحت كتاباً لاستذكار وحفظ هذه المعلومات ولم يطلب منّا ان نقوم ( بتسميعها) لها والتأكد من مقدار حفظها، ورغم ذلك فقد تسنى لها معرفة اهم الحيوانات المتواجدة في البيئة الاسترالية واسمائها الصحيحة كما ينطقها اهل البلاد نفسها. المدهش ان ابنتي تتذكر المعلومات التي تلقتها في مدرستها الاسترالية قبل اكثر من سنتين، اكثر مما تتذكر المعلومات التي انهتها قبل سنة في إحدى المدارس الخاصة بالسلطنة!

ما أتذكره جيداً عن هذه المدرسة هو الصف الذي درست فيه ابنتي، فعدد الطلاب لا يتجاوز العشرين طالبا وطالبة وتنتشر في الصف طاولات جميلة يناسب ارتفاعها المرحلة العمرية للطلاب. أشعة الشمس كانت تنساب بكل صفاء عبر نوافذ الصف العريضة والممتدة بامتداد الصف. الصف عبارة عن ورشة عمل صغيرة، بالغة الجمال، وليس غرفة صغيرة كئيبة مطلية بلون موحد لا حياة فيه. الصف ينطق بأعمال الطلاب وابداعاتهم المعلقة بشكل جميل في سقف الغرفة. الصف يقول أن الطفل لا يأتي هنا لنيل شهادة والانتهاء من حفظ الكتاب الدراسي في نهاية السنة الدراسية، بكل ما يرافق ذلك من صرامة وحزم مبالغين فيه، بل ان الطفل يأتي هنا ليتعلم ويجرّب ويخطأ ويستكشف ويبدع. فلم يعد الصف الدراسي كما عرفناه ايام دراستنا وحتى الآن ذلك السور العازل بألوانه وحدوده الضيقة، بل هو ومنظومة الصف جزء من الطبيعة من حولنا، يتناغم معها الطفل ويتآلف مع مكوناتها ليصبح كل طفلٍ فيها مبدعاً وفرداً ذو استقلالية.

ترى لماذا حرصت على ذكر كل هذه التفاصيل بهذه الدقة؟ عذراً يا قارئي العزيز فأنا أرغب في ان تفهم سبب خيبة الأمل التي شعرت بها لاحقاً، حين أكملت ابنتي دراستها في عمان الحبيبة. ولماذا خيبة الأمل ؟ هنا تبدأ قصة جديدة من هذه اليوميات التي تلوح فيها ظلال بريزبن من بعيد.

الجزء(3) عجائب المدرسة الاسترالية

تجربتي مع النظام التعليمي الاسترالي كانت مميزة وأثرتني بقدرما اثرت شخصية ابنتي وميولها وهي تخطو خطواتها الأولى. وكنت أتعلم مع ابنتي ما لم أتعلمه في مراحل دراستي الشخصية! ولذلك فإن السطور القادمة سوف تكون للحديث عن هذه التجربة بتفاصيل اكثر كونها تجربة جميلة ولا يمكن نسيان عمق تأثيرها.
البداية كانت صعبة مع عام دراسي قد بدأ قبل مجيئنا وبابنتي التي أنهت الفصل الأول من مرحلة التمهيدي في السلطنة، وبقاموس من الكلمات الانجليزية لا يؤهل لهذا الانقلاب اللغوي الكبير. خوفنا كان كبيراً من الاحباط الذي قد يصيبها من هذا التغيير المفاجىء، لكن الأمر الاكثر مفاجأة هو تصرف المدرسة تجاه ابنتي. وقبل ان اتوغل في ذكريات هذه التجربة أجد من الضروري أن أذكرأن المدرسة كانت مدرسة حكومية ولم يكن يتوجب علينا دفع أية رسوم دراسية غير رسوم القرطاسية والكتب.

قررت إدارة المدرسة الحاق ابنتي بالصف الأول اعتماداً على عمرها حسب القوانين الاسترالية، وكان ذلك كافيا ليثير قلقي، لكن معلمة الفصل طمأنتني وقالت لي: (لا تقلقي أبداً، فهي ليست الحالة الأولى لدينا، ومدرستنا مهيأة لاستقبال الطلاب الذين لا تمثل اللغة الانجليزية لغتهم الأم. ستتجاوز ابنتك هذه المرحلة الصعبة وسنساعدها على ذلك. حيث يتعلم الأطفال بسرعة في هذه المرحلة العمرية). لم تكن المعلمة لتبالغ أبدا، فالمدرسة تضم مركزاً صغيراً تديره معلمات مختصات بتعليم اللغة الانجليزية كلغة ثانية لغير المتحدثين بها.ويقوم الطالب بقضاء جزء من يومه الدراسي في هذا المركز الذي يقع داخل أسوار المدرسة، حيث يتلقى انتباه أكبر.

بعد مرور شهرين من القلق والانتظار، ومعاناة ابنتي من عدم القدرة على التواصل مع زملائها، فوجئت بها تزقزق في البيت باللغة الانجليزية! بل وجدتها تحدث نفسها- كما يفعل الأطفال في هذا العمر- وتلعب بدماها متحدثة معهم باللغة الانجليزية. ورغم حرصنا على الحديث باللغة العربية داخل العائلة، إلا ان المفاجآت توالت حين وجدتها تحمل إليّ كل يوم من مكتبة المدرسة قصة لتقرأها، مرفقة مع ملف، يقوم ولي الامر بتسجيل عنوان القصة وتوقيعه فيه بعد الاستماع إلى قراءة طفله. أما عن الواجبات فأجزم قرائي الاعزاء، انكم ستمتلئون بالدهشة إذا ادركتم ان حقيبتها المدرسية لم تكن تحوي غير الملف والقصة، ودفتراً واحداً للواجبات! أما الكتب فقد كانت تُترك في الفصل، والحقيقة اني لم أرى كتب ابنتي المدرسية إلا عند نهاية السنة الدراسية!

وبالنسبة للواجب العجيب، فقد تلقينا ملاحظة مطبوعة تم توزيعها على طلاب الفصل ، بأن أداء الواجب يجب ألا يستغرق أكثر من 15 دقيقة، وإذا استغرق اداؤه أكثر من ذلك فإنه يترك ويكمل في اليوم التالي. قارئي العزيز هل جاءك طفلك يوما طالبا ان تشتري له حقيبة مدرسية بعجلات لأن ثقل الحقيبة يؤلم ظهره؟ وترى كم من الساعات تقضينها يا عزيزتي الأم في حل الواجبات ومراجعة الدروس مع طفلك وخاصة لو كان لديك أكثر من طفل واحد في المدرسة؟
الجزء الأكبر من النظام الدراسي كان يعتمد على الفهم والممارسة العملية وليس على الحفظ والتلقين، كما أنه كان يحترم وقت الطالب وحقه في ممارسة هواياته وحياته بعد انتهاء الدوام الدراسي، بدل ان يصل النهار بالليل والليل بالنهار في سبيل الحفظ والمراجعة، وينهك معه الوالدين وخاصة إذا كان يعملان. ما أجمل ان يتم احترام شخصية الطالب وحقوقه، تماما كالموظف الذي يقضي ثماني ساعات في العمل، ومن ثم يرغب في الراحة في المنزل من غير ان يحمل معه مهام عمله إلى البيت! ما أجمل ألا تضطر الام - غالبا- إلى تقمص دور المعلمة، لتقضي بدلاً عنه وقتا طيبا مع ابنائها دون عملية الركض والالحاح على الابناء لانهاء واجباتهم.

الجزء(2) بين بريزبن والوطن

هل يمكن القول ان هذه الصور مثالية وأن الحياة وردية بشكل عام؟ بالطبع لا يمكن القول بوجود مجتمع مثالي خالي من العيوب.. لكن يمكن الحديث عن مجتمع يحاول افراده التعايش معاً واحترام الآخروالالتزام بالنظام والقانون وبالشفافية قدر الإمكان. يمكن الحديث عن مجتمع تنتشر فيه قيمٌ إسلامية من غير ان يكون جلّ أفراده من المسلمين. وحين تفكرفي كل تلك الأمور البسيطة والمهمة تبقى تتساءل بمرارة: ترى ماذا يفقد المرء في أرض الوطن؟
هل هما البساطة والحرية اللتان تضيفان سحراً خاصاً لحياة الغربة والبعد عن الوطن ؟ نعم فالوطن يحمل لي في البداية فرحة اللقاء بالأهل والأصحاب ، لكنه يغدو بعد فترة من الزمن عنواناً للتشتت.. للإزدواجية!
وأبقى طويلاً أراوح مكاني في عالم المقارنات.. وتبقى العديد من الأسئلة تدّك عقلي وتعفر روحي، فكيف يمكن لهؤلاء القوم الذين لم يبصروا شمس القيم والأخلاقيات التي يزخر بها ديننا على هذا القدر من الاحترام والرغبة في التعايش والتمازج مع الغير؟
وأتذكر مقولة الامام محمد عبده بعد زيارته لفرنسا (رأيت إسلاما بلا مسلمين) في مقابل ما رآه في بلاد المسلمين (رأيت مسلمين بلا إسلام). ما أصدق هذه العبارات وما أشد التزام القوم بالنظم والقوانين التي تتقارب مع تعاليم ديننا الحنيف وما أشد بعدنا عن هذه الأخلاقيات وقد ورثناها منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة!

ما أكثر ما تجد التواضع ونكران الذات والتحدث بكل شفافية وبساطة عن المشكلات والمعوقات والانجازات. هناك الأكف تصفق اقتناعا بأن ما تحقق كان يستحق العناء والتكريم، هنالك يكسب ذو السبعة اعوام نفس الاهتمام والاحترام الذي يكسبه ابن السبعين. هناك يكسب عامل النظافة نفس الاحترام الذي يكسبه مديرٌ مرموق ، فالشخص هناك لا يحترم فقط للألقاب التي تسبق وتلحق اسمه بل يحترم لذاته!

جولة بسيطة بسيارتك في شوارعنا وشوارعهم وستجد كم هو الفرق شاسع. ولا أقصد بالفرق تخطيط الشوارع ووضوحه وسهولة الوصول إلى أي منطقة من مجرد النظر في الخريطة المطبوعة، بل في قيمة الاحترام! تقود سيارتك هنا ، وتقف امام الإشارات الحمراء، وقد تسرح قليلاً أو تنشغل بالبحث عن محطة مناسبة تستمع إليها، وتفتح الاشارة الخضراء ، ولوهلة، لوهلة بسيطة قد يفوتك ذلك قبل أن تطلق العنان لسيارتك، لكنك تجد أبواق السيارات من ورائك لا ترحم وكأنك في سباق إجباري، غيرالسباب الذي ربما تكون قد تلقيته وبالطبع لم ترى منه غير التعبيرات الغاضبة على وجه سائق السيارة خلفك.

حياة المظاهر والرسميات والبروتوكول في كل جوانب حياتنا وتحركاتنا وتفكيرنا تشلّني وتقيد زمام عشقي لأرضي المعطاءة ! فما أكثر ما نولع بالكلمات الطنانة الرنانة كلما سنحت الفرصة، ولا تنسى حبنا لتمشية الأحوال وأن كانت الأحوال في أسوأ حال من التنظيم .وما اصعب الحصول على المعلومات في أرض تتحرك بالشائعات وغياب المعلومات. المدارس تعلم الطالب احترام الاستاذ والوقت والمدرسة والواجب..ألخ، وقليلاً ما تشجع المعلم على احترام الطالب واحترام الشخصية الصغيرة التي تنمو ببطء وحذر في داخله، فلم تعلمه أن يناقش ويعارض ، ولم تعلم المدرسة المدرس ان يحترم وقت الطالب بعد أن يعود إلى البيت عوضاً عن إرهاقه بالواجبات. المدرسة لم تدرك أن هناك مساحة حقيقية أخرى في حياة الطالب غير المدرسة هي مواهبه وحياته التي يجب أن تنال على نصيبها بانتهاء الدراسة.

الجزء(1) بين لندن وبريزبن

نُشر هذه اليوميات في جريدة عمان، ملحق(اليوم السادس)2007
حملتني الدراسة قبل اكثر من سنتين إلى هذه المدينة الاسترالية الجميلة، تلك المدينة القابعة في أقصى الجانب الشرقي من القارة الاسترالية. لم يكن حبي لبريزبن حباً من اول نظرة، بل أصابتني المدينة في أول أيامها بالاحباط والدهشة. ولطالما تخيلتها كمحبوبتي لندن أو الجميلة اسكوتلندا وقد هالني ألا تطابق لندن في تراثها وغرائبها ومتاحفها الكثيرة، كما سائني ان وجدتها دون المدن الاسكتلندية من ناحية الطُرزالمعمارية العريقة وجمال الطبيعة الآسر. كانت الصورة التي رسمتها لبريزبن قبل السفر إليها قد تلاشت وحلت محلها صورة مشوشة وغير واضحة المعالم. وبتسارع الأيام اكتشفت لهذه المدينة الهادئة طباعاً حسنة ما خبرتها في لندن المتوحشة لجفاء سكانها وبرودة طباع قاطنيها. فمن عنصرية لندن ورتابة شتائها إلى بريزبن المنفتحة على الحضارات والثقافات المختلفة، وبمناخها المعتدل والمتقلب أحياناً، والذي لا يمل من الاستلقاء في احضان الشمس المشرقة.

لندن مليئة بالروبوتات الآلية الأقرب إلى البشر، بأحاسيسهم الباردة وقدرتهم على الاساءة إلى الغير، لندن مليئة بالبشر الذين لا يخطئون، وينقضون بشراسة على من يخطأ لعفويته وطيبته. وبريزبن مليئة بالبشر امثالنا، الذين يخطئون فيشعرونك انك على ما يرام لأنك في النهاية إنسان وليس إنسان آلي مثالي.
لم تكن بريزبن خالية من الجمال، فالمدينة يقطعها نهرٌ أفعواني الشكل يجري كالشريان المتدفق فيها، فيبعث الأمل والحياة والروح في أرجائها. وفي أماكن متفرقة من النهرتتناثر حدائق بريزبن التي ما ان تزرها حتى تحسب نفسك في حديقة بيتك الخاصة! فالحدائق تمتاز بنظافتها وتنظيمها، كما تتوفر بها أجهزة شوي حديثة، بعضها مجاني وبعضها مقابل أسعار رمزية. وما يثير الدهشة ان هذه الاجهزة لا تتعرض للتلف، ويحرص مستخدموها على تنظيفها قبل وبعد استخدامهم لها.

أما عن المناطق المخصصة للأطفال فهي أفضل من تلك التي تتواجد بالمدارس الخاصة في بلادنا، حيث تبطن أرضيات اماكن اللعب بمواد تقلل من الاصابة في حالة وقوع الطفل، كما تتميز بنظافتها وتوفر اسس السلامة فيها. ويقوم مصممون مختصون بتصميم الألعاب فيها لترفع من مستوى اللياقة البدنية للاطفال كما توفر المتعة والترفيه معاً. السلامة عامل مهم في كل ما يتعلق ببريزبن، والحدائق جزء من ذلك فلا توجد أشواك او احجار أو بقايا زجاجات موزعة في الحديقة. توفر حدائق بريزبن مساحات خاصة لهواة الدراجات، ومن الشائع رؤية العوائل وقد اصطحبوا معهم دراجات أطفالهم للعب في الحديقة، ويحرص العديد منهم على انتهاز هذه المميزات والحفاظ عليها، وكثيرا ما تراهم يقيمون حفلاتهم العائلية الصغيرة تحت ظلال أشجارها الباسقة. اما ضواحي بريزبن فتحملك إلى غاباتها البكر وشلالاتها الصغيرة الراقدة بسرية في متاهاتها الكثيرة، كما تحملك إلى جبالها وهضابها الباردة وبلداتها التي تقدم نكهة المدينة في ثوب ريفي زاهي، فتجد مقاهيها المحلية تقدم أطايب الكعك والمشروبات الساخنة في أماكن مغلفة بهدوء الريف ودفئه الخلاب.

وتعتبر مدينة بريزبن نموذجاً للمدينة التي تنفتح على جميع الثقافات حيث تضم أعراقا متنوعة وأقليات متعددة، أدت بالحكومة إلى الترويج لسياسة التعايش السلمي وخلق برامج تناسب التعدد الحضاري الذي تزخر به المدينة، بل ووضع خطط مستقبلية بعيدة المدى تعلم الأجيال الناشئة احترام الثقافات والديانات الأخرى.

الخميس، 1 يناير 2009

راحلٌ برفقة الملائكة

إلى الصغير الحبيب الذي رحل قبل أن يفوت الأوان .. !



جاء بصخب الحياة
ورحل برفقة الملائكة
لا تلوميه على فراقك
فقد اشتاقت روحه إلى حضنها
حضن الجنة التي أتى منها
لا تقولي رحل قبل الأوان
فقد رحل قبل فوات الأوان !
-------
صفحاته البريئة مليئة بالحياة
حياة ليست من صنف الدنيا
بل من دوحة الخالدين
ملىء بالصفاء والطهارة
روحه مشبعة بالنقاء
بدعوات الحب والرجاء
-------
جاء ليبلغك رسالة الحب الأبدية
جاء يبشرك بأخوة صغار
لهم جمال طلته
وعبق رائحته
وعبير أنفاسه
وطهارة روحه
----------
" عليٌ" جاء ليحيا
لكن نقائه كان أصفى
وكماله كان أرقى
وجماله كان أبهى
وسحر الفردوس كان أقوى
أقوى من حبنا
أقوى من حبك
بل أقوى من حب الوليد لعناق أمه
----------
بقت المعشوقة والعاشقة في انتظاره طويلاً .. طويلاً !
فلم يشأ أن يؤخر الأقدار
كان وداعه ساحراً كيوم مجيئه
كان بزوغه ملهماً كيوم شروقه
وكان ألقه شديد الروعة والإبهار
-------
طوقته الملائكة
احتوته حور الجنان
وزعت القبلات في مهده الصغير
علمته أولى الأناغيم
أولى الخطوات
فوقف على أقدامه الصغيرة لأول مرة
و رأى دنياه تدبر.. لا لم تكن يوماً دنياه
أبصر الأنوار السرمدية
فكانت ابتساماته وضحكاته الأولى
وما عاد يطيق انتظارا
فنطق بأولى الكلمات
ودعا رسل الخلود أن يحملوه
عائداً
من حيث أقبل يوماً
بنشوة الخلود .





3/1/2004

أقاويل


يقولون للقلب عمقٌ واضطراب
يقولون للصبر حدٌ وامتداد
يقولون أن للراحلين موج البحار..
شراع الإبحار.. نشوة الانعتاق
يقولون أن لعشق الراحلين
لذة الهجعات.. نقاء الصلوات!

وأنت المساء.. وأنت الطريق
وفي قلبي تعلو ثريا الحلم، بردة الراهب، معبد الناسك..
يقولون ان المحال سهلٌ خُلق، حتى التقاءه بالأزل
حين جاء نور الراحلين، صار رحم المحال بعد ذاك عدم..!

قدري أن تكون مسائي
أن تكون طريقي
أن تكون عمقي واضطرابي
أن تكون حدي وامتدادي
أن تكون جبري واختياري

قدري أن تكون مسائي.. أن تكون طريقي
فأي فرارٍ تأملُ نفسي ..؟
وأي انسلاخٍ يلهب ظهري
وأي جهادٍ يرغم زندي..؟

أن تكون المساء.. أن تكون الطريق
أن تكون البداية.. أن تكون النهاية
لماذا يجب أن تكون..
لماذا بعدك يجب أن أكون..؟

لماذا شرودي، وجودي، تزحم فيه وجوهٌ لك..
لماذا عقوقي يجاوزنفسي.. يباعد قدري
ورغم الصدود، يسائل عنك فتيل الهوى..؟
لماذا سنوني تطاول عمري، تماري جنوني
ورغم التمنع، ورغم التألم
تمارس رغبة الأواب، زهوة الانتشاء، حين يتبارى إليك المدلجون..!

لماذا تبقى ذواتي الفسيحة
في سراب القبور، ولا انقطاع لحن الجنائز
لماذا عليك.. ودوماً عليك
غبار الراحلين.. سمات الماضيين؟

وانت المساء.. تريني الطريق
وأنت امتدادي.. إليك حدودي
وأنت جذوري.. ليالي اضطرابي

عفواً تنامى عنك الحديث
تقهقر عني لباس السكوت
عفواً ما أردت سوى أن أقول..
أنت المساء.. وأنت الطريق..!